آخر تحديث: 7 / 5 / 2024م - 8:21 م

الحرباء‎‎

ورد عن أمير المؤمنين : ما أقبح بالإنسان باطنا عليلا وظاهرا جميلا» «غرر الحكم: 9661».

حقيقة يلفت الأنظار لها أمير المؤمنين في هذه الحكمة وقد صاغها بأسلوب إنشائي وهو التعجب، كلون من ألوان الإثارات الفكرية التي ينطلق منها المرء ليكتشف المرامي والمقاصد التي أراد تبيانها من وراء الحقيقة التي يشير لها وهي ازدواجية الظاهر والباطن، حيث تحدث الإمام عن ظاهرة التباين بين ظاهر الهندام الأنيق الذي لقي من صاحبه عناية خاصة، وبين باطن أي نفس ملؤها الاعتلال بالآفات الأخلاقية وتضمر نوايا وأفعال تخفى على كل من تعامل معه بسبب تلظيه خلف قناع هندامه الجذاب، والعلة في هذا التعجب والاندهاش هو وجود شعور عند هذا المتلون الاجتماعي بأهمية الاعتناء بشكله وهندامه بما يحقق مقبولية وجاذبية في نفوس من يقابلهم ويتعامل معهم، فهو يدرك حقيقة مهمة في العلاقات الاجتماعية بما يؤثر على امتدادها وفاعليتها، أفلا يدرك مثل هذا المهتم بالقشريات والظاهريات والمعتني بها كثيرا أن الأساس والأهم هو طهارة ونقاء وألق النفس وخلوها من الكراهيات وأساليب الخداع والغش والافتراس والظلم؟!

بلا شك فإن هذا المخادع يلجأ للاعتناء بظاهره ليمرر وجوده في حياة الآخرين بغية الحصول على مصالح ومنافع شخصية يخفيها ويدفع الأنظار عنها من خلال الوقوف خلف أناقة ظاهرية، وأما إهماله لداخله الموبوء فينشأ من ضعف همته ببلوغ التكامل الإنساني والعمل على تحقيق ذاته البشرية الجميلة، فالإنسان له جمالان حقيقيان ينبغي له أن يهتم بأناقتهما بنحو مستمر، الجمال الأول يتعلق بطريقة تفكيره وتناوله لمجمل القضايا والمفاهيم والأحداث، فهذا العقل الناضج ينبع منه تلك الأفكار الإبداعية ويعبر عن تلك المعاني بأفضل العبارات، والجمال الآخر هو الأخلاقي والذي يعبر عن شخصية تتصف بالشفافية والتعامل بالصدق والأمانة، ويكن صاحبها للآخرين المشاعر الطيبة فهذا ما يجعل منه شخصا يحظى بالاحترام والتقدير والمحبوبية الحقيقية بعيدا عن المجاملات والمداهنات المقيتة، فالعلاقات القائمة بين الأقنعة وليس الأشخاص هي مجرد مصالح لا يمكن إعطاؤها معايير ومكتسبات العلاقة الصادقة كالثقة المتبادلة، ومن نظر لإنسانيته القائمة على تكامل الشخصية واقترانها بالكرامة والحرية التزام الصدق والترفع عن مساوئ الأخلاق والكراهية والخصومة فيتعامل مع الغير بكل محبة وشفافية، فإن الداعي للخداع هو ضعف النفس وانسياقها خلف المنافع المادية دون احترام لوجود الآخرين وحقوقهم، وكم من إنسان يشقى أهله به ويتعامل مع أفراد أسرته بشراسة وقسوة فيعيشون معه حالة الرعب وفقدان الاستقرار النفسي، بينما هو صاحب الوجه الباسم والكلمة اللينة مع أصدقائه وزملائه في العمل، هذه الازدواجية تعبر عن شخصية مريضة فيلبس صاحبها القناع الجميل أمام الناس بينما حقيقته التي يداريها هي المزاجية والأنانية والتعالي، وكم من إنسان يسعى لكسب مودة الناس بطريق الخداع والمراوغة، من خلال تقمص صورة الملاك الطاهر المتدين الذي لا يمكنه أن يتجاوز على حقوق الغير، بينما في الخفاء له باطن قبيح يتحرك وفق أهوائه فلا يتورع عن ارتكاب أي مخالفة ما دام بعيدا عن رقابة الأعين!!

أمير المؤمنين يدعو للاهتمام بجانب الجمال الفكري والأخلاقي والعمل على تطهير النفس من المساوئ والمشاعر السلبية كالحقد والمكر والكذب والنفاق، فلا يسقط المرء من أعين الناس كالمتلون المخادع الذي يعطي من طرف اللسان حلاوة بينما باطنه سيء، إذ أن واقعه لا بد أن ينكشف مع مرور الأيام ويسقط القناع الذي يلبسه وتظهر حقيقته القبيحة المخفية.

ونختم بالتأكيد على أن الازدواجية بين الظاهر والباطن والتلاعب بمشاعر وأفكار الآخرين من خلال هذا التلون، ينتشر بقوة على مسرح الحياة ما كانت هناك نفوس مريضة تعتقد أن مصالحها تتطلب الظهور بوجوه متعددة يناسب كل واحد منها ذلك الموقف الذي يواجهه، فهو يتلون كالحرباء بحسب مقتضى المحيط الذي يعيش فيه وبما يؤمن له مصالحه أو اصطياد فرائسه، وعلينا الحذر في التعامل مع الآخرين لئلا ننخدع بمثل هؤلاء الذين يظهرون بمظهر الحمل الوديع بينما هو ذئب يتحين الفرصة للإيقاع بالغير.