آخر تحديث: 7 / 5 / 2024م - 5:52 م

الشيطان خلف القضبان ‎‎

ورد في خطبة الرسول ﷺ: … وَ الشَّيَاطِينَ مَغلُولَةٌ، فَاسأَلُوا رَبَّكُم أَن لا يُسَلِّطَهَا عَلَيكُم..» «عيون أخبار الرضا ج 2 ص 266».

يدور الحديث حول تلك الخصائص لشهر رمضان وما أتحف الباري عبده به مما يعينه على تحصيل الغاية الأسمى من الصوم وهي التقوى، ومن تلك الامتيازات الرمضانية تقييد الشياطين بالسلاسل ليحال بينها وبين ممارسة دورها التخريبي بتزيين السيئات للعباد وحرفهم عن جادة طريق الاستقامة والورع، ولا يمكننا حمل هذا المعنى وهو تصفيد الشياطين على المعنى الحقيقي بمعنى إبطال دورها قهرا كما يتصور البعض، إذ الدنيا دار ابتلاء إلهي في ملازمة التكاليف والأوامر الإلهية أو مخالفتها وتركها، والصوم قد افترضه الله تعالى على عباده ليرى منهم من يلتزم به واضعا نصب عينيه رقابة خالقه عليه، وتمييزه عمن يحيا الغفلة طوال أيامه ومنها أيام شهر رمضان إذ التبلد الفكري والسلوكي قد استحكم في نفسه، وتعطيل الوساوس الشيطانية يفقدنا هذا التمييز إذ المؤمن يجاهد هواه وشهواته ويعرض عن الوساوس الشيطانية بينما الغافل فاقد للحصانة النفسية أمام نداء الشيطان وتسويلات النفس، فينقاد لها دون رادع يردعه أو ضمير يقظ يذكره بعواقب وخطورة ارتكاب الآثام وجزائها في يوم الحساب، كيف وقد جعل سبحانه شهره الكريم مضمارا يتسابق فيه العباد ليبرز فيه من يحافظ على هذه الأمانة الإلهية بدون جرحها ممن لا يراعي حرمته ولا يخاف الله تعالى فيه ولا يكبح جماح نفسه أمام الإغراءات والتزيين الداعي للوقوع في الخطيئة؟!

ولاستيضاح المعنى واستجلاء الحقيقة لابد من التعريج على حقيقة الصوم والغاية منه وتلك المكتسبات الروحية والأخلاقية التي تعود على الصائم، فالإمساك عن المفطرات ميدان اختبار في مواجهة الشهوات والأهواء وصوت الشيطان المريد، وهذه المواجهة لا يمكن الانتصار فيها إلا من خلال وجود نفس محصنة وفكر واع وبصيرة بالأخطار المحدقة، ولذا فإن صناعة شخصية المؤمن القوية وتحصيل طهارة النفس وترفعها على الموبقات الأخلاقية لا يأتي من فراغ، بل هي ملكة تتكون وتنمو وتتكامل من خلال خوض تمرين عملي تغالب فيه النفس الشهوات، والصوم يقف حاجزا أمام الاستجابة لصوت الشيطان إذ بعد هذه الدورة التدريبية على حبس النفس من الشهوات تتشكل نفس في صورتها وجوهرها ما يختلف عما سبق حيث تحصنت بالصبر وقوة الإرادة في المواجهة.

كما أن الاسترسال في الغفلة - ولو جزئيا - وارتكاب المعاصي يضعف النفس في ميدان المواجهة مع الشيطان ويحولها لكيان متهر لا يقوى على مقاومة الأهواء، وهذا الاستمرار يحول كثيرا من المخالفات والمساويء إلى عادات قد أدمن على فعلها، بل ويستحكم فيه التصور عن نفسه بأنه ذاك العاجز الذي لا فائدة من أي موعظة ليتغير حاله أو يقلع عما هو عاكف عليه من الخطايا، ولذا يأتي شهر رمضان ليحدث عنده إفاقة ويبث فيه روح التغيير والقدرة على مجانبة الخطيئة، إذ أنه بالإمساك عن المفطرات أبدى قدرة على المواجهة ولو بأدنى حالاتها، ولكن الحقيقة التي تجلت أنه قادر على فعل الشيء الكثير ويستطيع من خلال مضمار الصوم أن يترفع عن الآثام والرذائل، وهذه المواجهة الحقيقية هي بداية تغير الموازين وإغلاق الباب المفتوح على مصراعيه أمام الشيطان ليجول ويصول ويمارس وساوسه وأحابيله في كل تصرفات العباد، وهذه الحصانة النفسية لعلها المعنى الأقرب لتصفيد الشباطين ومنع ممارساتهم التخريبية في حياة المرء، فغل أيادي الشياطين لا يعني منعها من التصرف التام بل يعني إنهاء دورها وتأثيرها من خلال كسر الصائم لشهواته ونشوء حالة المنعة التي تقوى شيئا فشيئا، وإلا فإن هناك من الناس من تلازمه الشياطين حتى في الشهر الكريم فلا يتأدب ولا يرعوي عن فعل الآثام، فتصفيد الشياطين دعوة إلهية لعباده بأن ينتبهوا للمعركة القادمة مع الشيطان في الشهر الكريم، فإن أجنحة قوته تتكسر وتنهزم من خلال نفوسكم المتسلحة بالإرادة.

كما أن الأجواء العبادية المكثفة في الشهر الكريم تعد رافدا مهما في تقوية النفس وتهذيبها وعدم انصياعها للشيطان الرجيم، ومتى ما أعد الصائم نفسه ليناجي ربه ويتلو الآيات القرآنية فإن درجة نضجه ورشده الفكري تعلو وتتقوى فلا يقع فريسة سهلة لإغواء الشيطان، فالشياطين تغل أيديهم وتضعف قواهم أمام تلك الهالة النورانية للأجواء الروحية خصوصا مع التأمل في مضامين الأدعية المباركة.