آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

الطاهرة خديجة (ع) سيدة قريش

كانت السيدة خديجة متفردة عن نساء زمانها بل والرجال لما حملته من حنكة ورجاحة في عقلها وصفاء في نفسها، ونزاهتها وبراءتها من كل علائم الجهل والضلال والعتمة العقائدية والأخلاقية في العهد الجاهلي، وأظهرت شخصية اتسمت بالكمال الإنساني والإذعان لصوت العقل ووأد الأهواء في كل خطاها وقراراتها، ويدل على ذلك إعجابها بشخصية محمد ﷺ ذلك الشاب الذي يتحدث كل الناس في مكة عن صدقه وأمانته وأخلاقه الرفيعة، ولذلك رغبت في أن تكون زوجة له لما رأته من انسجام وتوافق روحي يجمعهما بما لم تجده في غيره من رجالات المجتمع القرشي، ولما صدع رسول الله ﷺ بالحق تلبية لنداء ربه ودعوته لانتشال الناس من ظلمات الجهل والشرك، كانت السيدة خديجة من أوائل من آمن به وبدعوته عن قناعة رسخها عقله الراشد الذي رأى في تلك الدعوة ما يوافق الفطرة السليمة ويستند على الأدلة المتينة، كيف والدعوة المحمدية ترتكز على مبدأ التوحيد ونبذ عبادة الأوثان من الناحية العقائدية، كما أنها تدعو لنزاهة النفس وطهارتها من الرذائل والعيوب وتعلي شأن القيم والفضائل وتجعل من مكارم الأخلاق عنوان الرسالة الإسلامية.

السيدة خديجة أقبلت بكل قواها وروحها وما تملك في سبيل تبليغ الدعوة المحمدية ووصول نورها إلى كل النفوس المظلمة بالجهل، وكانت هذه العظيمة تعلم - علم اليقين - الأثمان التي ستدفعها جراء موقفها المدافع والمنافح عن الدوحة المحمدية وستواجه نبرة عدائية لا تقف عند حد في طريق الظلم من زعماء قريش، ولكنها لم تأبه لذلك وهي السيدة التي تحلت بالشجاعة في كل مواقفها القائمة على العقل الرشيد، وقد بذلت في سبيل الله كل غال ونفيس ووضعت كل أموالها بين يدي رسول الله ﷺ من أجل نجاح واقتدار الدعوة، نعم لقد كانت خير عون وسند لرسول الله في الدعوة وتحمل أعبائها والمتاعب التي يواجهها في طريق هداية الناس وإقناعهم بما يصلح شأنهم وينيلهم السعادة والنجاة في الدارين.

وإيمانها ومؤازرتها لرسول الله ﷺ لم تتأخر بل كانت في الطليعة ومن الأوائل السابقين الذين حازوا هذا الفضل مما يؤكد على ما تملكه من فكر ثاقب وإرادة قوية، وقد دل على طواعيتها للحق وبصيرتها تجللها بحلل الإيمان والطاعة بأداء الصلاة مع رسول الله ﷺ وأمير المؤمنين في أول صلاة كانت تقام لتكون عنوان وهوية الدين الإسلامي، كما أنها كانت الصابرة المتجلدة في مواجهة التحديات والمصاعب مع رسول الله، فأخذت دور المسكن الروحي والنفسي له ﷺ والذي يخفف عنه عناء الدعوة والكرب اللاحق له من تكذيب قومه وإصرارهم على الشرك والضلال، ولم تفارق رسول الله ﷺ أبدا حتى في أحلك الظروف وأصعبها مبدية الصمود والثبات في مواجهة الطاغين الرافضين لإشراقة الدعوة المحمدية، وعندما تآزر زعماء قريش على الإثم والعدوان وفرض الحصار الاقتصادي على بني هاشم الذين لجأوا إلى شعب أبي طالب أبت إلا البقاء مع رسول الله، وقد أطبقت قبضت المشركين على الزمرة المؤمنة مع رسول الله حتى ضاقوا الأمرين فأكلوا من ورق الشجر، والسيدة خديجة صابرة مع الرسول ﷺ على هذا الحصار طوال ثلاث سنوات، وقد حاولت أن تكسر شيئا من ذلك الحصار من خلال مراسلة أفراد من أهلها ليمدوا بني هاشم بشيء من المؤونة، فأي قلب جسور امتلكته هذه الطاهرة لتسجل من مواقف البطولة والإباء ما جعلها في طلائع صفوف العظماء الذين خلد التاريخ مواقفها بأحرف من ذهب.

وبعد مسيرة حافلة بالعطاء والمواقف الإيمانية الخالدة آن لروحها الطاهرة أن تستريح من عناء هذه الدنيا، تاركة خلفها سيرة حافلة وناصعة لا يمكن لأي منصف أن يقف أمامها إلا بإكبار؛ لتكون منهلا ومدرسة يستقي منها المؤمنون الدروس والعبر في طريق الحق والفضيلة والثبات أمام العوائق والمصاعب، فسلام على تلك العظيمة التي سكنت روح وعقل رسول الله ﷺ، فما يمر يوم ولا موقف إلا ويسرد شيئا من عطائها ممتنا لما أبدته من عطاء لا محدود، نعم خلدت في الوجدان المحمدي وفي كل نفس طاهرة بما قدمته من شخصية تكاملية تخلصت من حب الذات وذابت في طريق العطاء بكافة أشكاله وأبوابه.