آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:50 م

المشي الملون

أثير السادة *

بين يدي عدد قديم من مجلة ماجد، المجلة الإماراتية التي رافقت طفولة ومراهقة الكثيرين في العقود الفائتة على امتداد الخارطة العربية، يعود العدد لعام 1984، وهو العام الذي أعتقد بأني اقتنيت فيه المجلة لأول مرة وأنا أمشي باتجاه الأندلس، لا لأفتحها، وإنما لأدرس فيها، حيث كانت مدرسة تقع في الطرف الأخير من الحي.

تعرفت إلى المجلة أول مرة وأنا أمشي من أول الحي إلى آخره، المشي الذي كان يلون وجه الصباحات في الزمن السابق، كنت وحيدا لكن الطريق مليء بالعابرين من حملة الحقائب المثقلة بالوعود، المتلونين ببياض ثيابهم وأحلامهم، كانت السنة الثانية في مشواري داخل هذه المدرسة والتي لم تكتمل حتى حملنا إلى بيت صغير في طرف آخر من أطراف الحي، لأن المدرسة بعد موجة مطر عاصفة أسلمت أمرها وعدت في عداد المدارس الآيلة للسقوط.. كانت هنالك بقالة صغيرة تقع في هذا الطريق، لا تتجاوز حدودها مساحة 3 أمتار مربعة، لم نكن نعرفها بإسمها المذيل في لوحتها، بل بإسم صاحبها الذي جمع فيها بعض“الأرزاق”التي تحتاجها البيوتات القريبة، وبعض الحلويات التي تغري الطفولة لارتياد المكان.

لم يكن مصروفنا في تلك الأيام يتجاوز الريالين، فهما كافيان لشراء وجبة الإفطار من مقصف المدرسة، إفطار لا يتجاوز علبة عصير صغيرة وسويترول العصري الشهير بسعره الزهيد آنذاك، هما ريالان لا أكثر، لكن بهما الكثير من البركة يومها، لذلك جربت الدخول مرات إلى البقالة إياها لأنظر ما بها من مغريات تشبه طفولتنا، وفي واحدة من المرات وجدت في مقدمة الطاولة مجلات ملونة بالفرح، عليها غبار أفلام الكرتون التي ننتظرها بعد نهاية كل يوم دراسي، نظرت إليها مليا، وسألت صاحب الدكان عنها فأخبرني بأنها للبيع بريال واحد فقط.. قلبت المجلة، وقلبت الريالين في يدي، وراحت تتقلب الخيالات والأفكار في رأسي الصغير، هل أشتريتها وأتخلى عن جزء من وجبة الإفطار؟.. الوقت ضيق والحصة الأولى على وشك البدء، أسلمته ريالا ودسست المجلة في حقيبتي ورحلت.

كان الشاب عيسى إبن صاحب الدكان يجمع الكثير من أعداد مجلة ماجد، وحتى يتمكن من شراء الأعداد التالية كان يعمد إلى بيع الأعداد القديمة بنصف الثمن في هذا لدكان، وبذلك ينجح في الاستمرار على اقتنائها ومطالعتها في كل أربعاء حيث الموعد الدائم لصدورها.. من تلك اللحظة أصبحت صديقا لمجلة ماجد، لا أعلم إن كنت تهجيت إسمها جيدا حين اشتريتها، غير أن متأكد بأني ترددت مرارا على شرائها كلما سنحت الفرصة وكلما امتلكت الشجاعة للتخلي عن ريال واحد من مصروفي المدرسي.

أنظر الآن إلى الصفحات الداخلية وأتذكر تماما تفاصيلها وأبوابها، أضحك وأنا أنظر إلى كسلان جدا، تأخذني الحيرة كيف استطاع أن يكون شخصيتي المفضلة في ذاك الزمن، أتأمل في وجوه الأصدقاء الجدد للمجلة، وأسماء المندوبين، وأستذكر محاولتي الأولى لمراسلة المجلة، أقطع المغلف الجاهز للطي والإرسال وأودعه البريد الذي لم يكن يومها بعيدا عن بيتنا، وكان في كل مرة لا يغادر محله، والسبب هو أني لم أضع ما يلزم من طوابع للإرسال.. أواصل تقليبها وأقلب مشاعري معها، هذه الحكم والنكت وهل تعلم كلها أشياء لونت الذاكرة ورسمت أول الطريق للمعرفة خارج الكتب المدرسية.. لم يكن هواة التعارف يومها بدعا من القوم، فالوقت علمنا بأن هذا الكائن هو حيوان اجتماعي ويبحث عن متسع للتواصل مع الآخرين سواء على الأرض أو الفضاءات السبرانية، أو كما كان بالأمس من خلف رسائل البريد.

سأدعي بأني حاولت الاستمرار على اقتنائها خلال السنوات الماضية، للنظر في احوالها من جهة، ولتحريض الأبناء على الاستمرار في مطالعتها، الخيبة كان محصلة الاثنين، فلم أعد أجد فيها ما كنت أجده في هذا العدد القديم، حتى الخطوط والرسوم كان لها رونق، تختلف عن روح الخطوط والرسوم الحاسوبية، مؤكد بأن المجلة مرت بمراجعات عدة في ظل التحولات التقنية والتي سحبت البساط عن هكذا مجلات كانت تملك القدرة على الدمج ما بين الترفيهي والتثقفي والتربوي.. غير أنها كما يبدو لم تجد سبيلا للخروج من مأزقها إلا بالتحول إلى مجلة شهرية، وقناة فضائية، ربما لأنه لم يعد هنالك أطفال يودون المغامرة بمصروفهم المدرسي لشراء مجلة شاخت وتباعدت المسافة بينها وبين الزمن الذي تحياه.