آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:18 م

الضيق والسعة في المعيشة رؤية عقائدية وقرآنية‎‎

قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ - الشورى الآية 27.

من المسائل المرتبطة بالجانب العقائدي والاجتماعي هي مسألة التفاوت في الأرزاق بين الناس، حتى يصل إلى مرحلة التخمة والثروة الطائلة ويتنازل إلى مرتبة الفقر المذقع، وهذا ما يطرح تساؤلا حول الغاية والحكمة من هذا الاختلاف وعدم المساواة بين الكل من هذه الجهة، كما أنه يرتبط بجهة عقائدية ترتبط بمسألة العدل الإلهي والذي لا يمس فيه الجور والنقص أحدا من عباده، بل وتجد من حال بعض عباده المؤمنين المخلصين حالة العوز بينما يتنعم ذلك الجاحد بآلائه والكافر بآياته بمتاع الدنيا، وهذا ما يوقع البعض - لأول وهلة - في حيرة من أمرهم من هذا الحال الباعث على الدهشة والاستغراب، ولكن بشيء من التأمل في الآيات الكريمة يبدو الأمر جليا لا لبس فيه، وأنه لا يقع على وجه الصدفة بل وفق تخطيط إلهي محكم من العارف بأحوال عباده وما يصلح لهم.

التساؤل يقع في دائرة التفاوت في الأرزاق حتى يبلغ الحال بأحدهم أن يبيت متألما من الجوع بينما الآخر متألم أيضا ولكن بسبب التخمة في الأكل، فلو كانت الأرزاق في مستوى واحد لما احتاج الفقير لأحد وما بذل ماء وجه منكسرا ليتلقى ما يجود به الغني، بل ويظل تحت وطأة الفقر والجوع مما يقلب مشهد حياته إلى كدر وهم فقلما تمر عليه لحظات جميلة تسر قلبه، بينما ذلك الغني يحيا السعادة بكافة مواردها وأشكالها فيسكن ويلبس ويأكل ما يريد بما يتوفر بين يديه من أمواله، فكيف يمكننا فهم هذا التفاوت والتباين في أحوال العباد بما ينزه المولى الجليل من الظلم والجور على عباده.

هناك عدة نقاط لابد من تبيانها حتى تتضح الإجابة وتستجلى الحقيقة من وراء ذلك، وأولاها: سنة الابتلاء الجارية على العباد في كل أحوالهم وسرائهم وضرائهم، فذلك الفقير المبتلى بالفقر ليرى منه القناعة والكفاف والعفة عن تناول الحرام في تلك الأوضاع الصعبة التي يعاني منها، أو أنه يخسر في الاختبار فيواجه السقوط في أتون اليأس وتكبيل الأيادي والتشكي والتذمر بنحو مستمر، فكذلك الغني يبتلى أيضا بما تحت يديه من أموال كيف يحصل عليها ويتصرف فيها، فهناك من يصاب بالآفات الأخلاقية الناجمة عن التعلق بالأموال كالجشع والبخل والتكبر، وآخر يخاف الله تعالى ويؤدي الحقوق الشرعية ويبلسم من خلالها آلام وحاجات الفقراء واليتامى، وهكذا نرى أن القضية مرتبطة بمبدأ الاختبار الإلهي ولا دخل لها في كرامة لذاك الغني أو استهوان للفقير بل تجري الأمور وفق مقادير الابتلاء.

والنقطة الأخرى هي النظرة الدينية للدنيا فإنها ليست إلا ممر للآخرة، قد جعلت مضمارا للعمل وبناء الرصيد الأخروي؛ ليجازى هناك كل بعمله وما جنت وارتكبت يداه دون أن يفلت أحد من العباد من الحساب والمجازاة على ما قدم في دنياه، وبالتالي فإن الغنى والفقر في الدنيا ليس بنهاية الأمر وعلى إثرها نحكم على حال المرء من خلال وضعه المادي، بل هذه الدنيا ليست إلا البداية وطرف الخيط للمرور إلى الحياة الخالدة.

ونقطة أخرى تتعلق بمصالح العباد وتتأرجح بين نظرة الخالق العالم بأحوال عباده وبين تصور الإنسان القاصر لما يناسبه ويعود عليه بالفائدة، فإن الواحد منا يعتقد - بنظرة مادية ساذجة - أن ما يناسب مصلحته هو الظفر بالأموال الطائلة التي يتصرف فيها بما يبعد عنه شبح الفقر والحاجة، ولكن الخبير هو العالم بمصالح عباده بما يبقيه في دائرة الخير والصلاح، فهناك من لا يتحمل حالة الغنى فيبطر ويتجبر ويطغى فيضيع مستقبله الأخروي، فيختار الله تعالى له التضييق في الرزق بما يحفظه من زلات وحفر التعلق والافتتان بالمال، فيكون فقره في الظاهر نقمة بينما باطنه الحصن المانع له من الإفلات التي ابتلي بها أغنياء فرطوا وأسرفوا، ولا ينالهم في يوم القيامة إلا العذاب الأليم.

ونقطة أخرى تتعلق بمبدأ الحاجة بين الناس إلى الأعمال والحرف بما يحافظ على المظلة الاقتصادية الوازنة بينهم، إذ لو كان الجميع على حال واحد من الغنى فمن سينزل إلى ساحة العمل والمهن ليوفر لهم ما يحتاجونه من طعام ومباني ومزروعات، فهذا التفاوت يدعو الناس للاتجاه لساحة العمل المتنوعة التي توفر احتياجات المجتمع بما يتناسب وقدرات ومهارات كل واحد منهم.

ومسألة الفقر الحاصل في أحد أسبابه من جور وجشع بعض الناس لابد من وضعها في الحسبان، إذ استئثار البعض بالثروات كان من أسباب تكثرها هو حرمان الفقراء من العطاء، كما أن الفقر ليس قدرا محتوما على الإنسان، إذ البعض يهمل جانب التنمية لقدراته ولا يملك طموحا لتغيير واقعه نحو التحسن، فمواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة لغير المتمكن ماديا تحتاج إلى ثقافة الإدخار، والبحث عن فرص وظيفية واقتناصها فيعمل جاهدا على تحصيل مستلزمات ذلك العمل والدورات التدريبية اللازمة له.