آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

المؤمن همة عالية في ميدان العمل والتكاتف الاجتماعي

ورد عن الإمام الصادق : لا خير في من لا يحبُّ جمع المال من حلال، يكفُّ به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به أرحامه» «وسائل الشيعة ج 12 ص 19».

قد يتبلور في ذهن البعض صورة سلبية قاتمة لجمع المال والحكم على صاحبه بالذم، وذلك لما ورد في النصوص الشريفة من تأكيد على نزعة حب المال التي لا تفارق الإنسان الغارق في الشهوات والمصاب بالغفلة عن مآله الأخروي، وتلك القصص القرآنية الواردة في بيان حال من أخذه جمع الأموال نحو الانحراف عن الحق والإصابة بالآفات الناتجة عن ذلك كالبخل والطمع كما ورد في قصة قارون وثعلبة الوارد ذكره في سورة التوبة تأكيد على هذا المعنى، بل وكان عماد ارتكاب الجريمة وطغيان النفس والاستعلاء في الأرض وظلم الآخرين هو حالة الجشع الداعية لجمع المال بأي طريقة ولو كان على حساب يتيم يغصب تركته أو فقير يخرج اللقمة من فمه، فلا يمكننا إنكار حالات الصراع الإنساني على مر العصور والتي قد تحدث بسبب تطاول النفوس المريضة لأخذ ما في جعبة الآخر من مصدر مالي كما كان يحدث في أيام الجاهلية من سلب ونهب بين القبائل، فالنزعة المادية إذا طغت على النفس البشرية أخرجتها من رحم القيم الإنسانية النبيلة واتجهت بها نحو المصالح الضيقة، وتحويل مسار الحركة الإنسانية نحو تحصيل المال وإلغاء المعاني الجميلة كالأخوة والصداقة.

حقيقة لا خلاف عليها وهي أن المال عماد وقوام الحياة فلا غنى للناس عنه كالهواء الذي يتنفسونه، إذ أنه اللغة الاعتبارية لتبادل المعاملات بين الناس في تجارتهم وغيرها، يسعى المرء لتوفيره من أجل الحصول على حياة كريمة في مظاهرها المادية كالسكن والملبس والطعام وغيرها، ولذا جعل الباري عز وجل حب المال غريزة مودعة في الإنسان ليسعى خلف لقمة العيش الحلال، وهذا الكد وتلك اليد العاملة لها مكانتها وقداستها في الإسلام وذلك أنها تبعد شبح الحاجة عن الإنسان ومد يده للآخرين مع قدرته على العمل، وكذلك تحفظ أسرته من الاتجاه نحو الحرام والعبث بممتلكات الآخرين، وهكذا نجد نسقا واتجاها لجمع المال ليس ممدوحا فقط بل هو في اتجاه رضا المعبود وتحصيل الأجر والثواب الأخروي، وهذا ما يجعلنا ننطلق نحو النظرة الدينية للمال والتي لا تختلف عن كل النظريات الاقتصادية من جهة كون المال عماد الحركة الاقتصادية للفرد والمجتمع، ولكن وفق ضوابط تتعلق بالمعاملات المحللة وكيفية الإنفاق، فالذم أو المدح لا يوجه لأصل المال بل إلى كيفية الحصول عليه من حلال أو حرام وكيفية إنفاقه وفق ضابطة الاعتدال بين حدي البخل والإسراف، وكونه وسيلة لا تتغلغل إلى شغاف القلب أو كونه غاية يلهث خلفه الإنسان ويسخر كل إمكانياته وجهده ووقته لتحصيله، فباختلاف هذه الجهات والتصرفات يمكننا الحكم على طريقة التعامل مع المال بأنها ممدوحة أو مذمومة.

الإمام الصادق يبدد ذلك التصور الواهم بأن المال مذموم لذاته وينبغي العيش بحالة الإقتار وتجنب كل ألوان المتاع، فالمال في يد المؤمن من أهم الوسائل التي تساعده على التعفف والكفاف، فلا خير فيمن أدمن حياة الاتكال على الآخرين والعيش على ما فضل من أموالهم وما تجود به نفوسهم الطاهرة، بل المؤمن صاحب همة عالية وإرادة قوية لا يكل ولا يمل من البحث عن لقمة العيش الحلال ويتحراها ولا يتعداها إلى الأموال المشبوهة فضلا عما حرم الله تعالى، فالمؤمن صاحب عزة وكرامة يستشعرها في عمله المثابر وتوفير مستلزمات حياته من كد يده، ولسانه يلهج دائما بالشكر قناعة برزقه تعالى ولا تتطلع عينه لما بيد الآخرين، فسعادته ليس بجمع الأموال وكنزها كما يهوى عباد المال وخزانه، بل سعادته بالإنفاق على نفسه من كد يده والتوسعة على عياله، وبلسمة آلام المحتاجين فيقدم شيئا من فاضل ماله ليعيد الهدوء النفسي والابتسامة على تلك الوجوه البائسة.

الإمام الصادق يؤكد على أهمية تحمل المسئولية في بعدها الاقتصادي فيتحمل الإنسان توفير مستلزمات الحياة الكريمة له ولأسرته كافا نفسه عن الاستجذاء، وهذا ما يحرك عجلة الاقتصاد وينهض بالمهن المختلفة ويقضي على البطالة، كما أنه في طريق بناء مستقبل أسرته قد يضطر إلى توفير مبلغ كبير باقتراضه، وهذا ما يفرض عليه جدولة ذلك الدين وتقسيطه حتى يفي به تماما، فالمؤمن يحسب جيدا خطواته ولا يأخذ مالا بالباطل أو لا يعرف كيفية تغطيته من عمله الشريف.

والأمر الآخير الذي يؤكد عليه الإمام الصادق من أبواب جمع المال الحلال المحبوبة هو صلة الأرحام ماليا، فمما يقوي العلاقة بين الأقرباء هو الشعور بحاجة الغير من أنسابه ويحاول أن يخفف عنه وطأتها بما تجود به نفسه، فذلك مما يزيل الضغناء وينشيء مظلة التكاتف والتعاون في طريق الخير ومساعدة الضعفاء من أهله.