آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

ما بين السطور

قال تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ? وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿البقرة الآية 269 .

ما هي حقيقة تلك الحكمة التي يجعلها القرآن الكريم من أفضل العطايا والخيرات التي ينالها الإنسان، كما أن أمير المؤمنين يعدها أمرا مهما يبحث عنه المؤمن في كل مكان وزمان، «الحكمة ضالة المؤمن»، فلا يترك مصدرا يتلقى منه نبعا عذبا إلا وارتوى منه، وإن صدر من إنسان يختلف معه في الفكر والمعتقد؟

لن نخوض في تفاصيل ومعالم الحكمة إلا بقدر ما نريده وهو أن نعطي توضيحات تبين حقيقتها، فالعقل البشري إذا مارس التفكير فيما حوله وما سبقه من أحداث وأحوال الناس، سيصل إلى استنتاجات وقراءات تتعلق بالعوامل والمسارات والاحتمالات وأوجه الخطأ، فتتحول تلك الخلاصات إلى ومضات معرفية تضيء درب الإنسان وتنبهه على العثرات والخطوات التي تنزلق به نحو هاوية الخسران في حاضره ومستقبله، كما أن تلك النقاط والصفات الإيجابية فضائل وقناديل كمالية يتمسك بها لتحقيق صورة الإنسان المتكامل.

الحكمة هي التدبر في الأفكار والأحداث والمواقف ليكون له من تلك التجارب خبرات يقدمها في مسيره في هذه الحياة، فالحياة سبل مظلمة ومتاهات وعراقيل تصادف كل إنسان، ولا يقيه من الوقوع في الحفر والمنزلقات إلا بمقدار ما يمتلكه من حكمة وتبصر في الأمور، ولذا يعبر عنها أمير المؤمنين بأنها ضالة المؤمن يتحراها ويبحث عنها لأنها تنير طريقه وتجنبه الوقوع في أسر الشهوات والأهواء المسقطة له في الهاوية، فالحكيم لا يسقط نفسه في مستنقع الشهوات والرذائل والنقائص، بل يحافظ على طهارة نفسه ونزاهتها من الأهواء إذ هذا ما تدعو له الحكمة لو تأمل الإنسان في حكمة خلقه. فالمؤمن يبحث عن الموقف والقرار المناسب الناتج عن قناعة عقلية راسخة وبصيرة بما ستكون عليه عواقب كلامه أو سلوكه، فتحري الصواب والمنطقية في الكلمة والسلوك منهج تربوي وفكري يسير عليه المؤمن ولذا فهو يبحث عما يعينه على ذلك، فالحكمة تعينه في تحديد مواقفه المستقبلية وما يتعلق بعلاقاته وقراراته وخطواته، إذ هي خلاصة مواقف مر بها الآخرون أو مر به فاستخلص منها ما ينبغي عليه القيام به قولا وفعلا.

والحكمة أمر نسبي تتفاوت درجاتها ومستوياتها بحسب ما تنضج وتتمكن تلك الخبرات والمعارف من نفسه وتنعكس على سلوكياته، إذ أن تمتع العقل بنسبة ذكاء عالية دون تطبيق تلك المباديء والحكم لا يعني إلا الضياع والخسارة الفادحة، ولكنها الحكمة التي تحضر في المواقف والقرارات التي نتخذها بعيدا عن العاطفة العمياء والأهواء، والقرآن الكريم يضرب لنا مثلا بشخصية لقمان الحكيم والذي أوتي الحكمة بأعلى درجاتها ويقدم لنا في سورة لقمان المباركة مجموعة من تلك الحكم، والتي يبدأ بأولها وأهمها وهي توحيد الله عز وجل وتجنب الشرك به، كما تذكر الروايات الشريفة كثيرا من تلك الحكم على لسان الأئمة ، وتلك الحكم عصارة المعارف والخبرات وفهم حقيقة الدنيا والأحداث التي دارت فيها؛ ليشكل منها الإنسان مجموعة من المرجعيات المعلوماتية فيستحضرها لاتخاذ الموقف المناسب، وهذا ما يظهر أن الحكمة لا تتكيء على جانب الفهم والنضج في التفكير فقط بل هو تآزر الجانب الوجداني والانفعالي بما يحقق التوازن في شخصيته، فاليوم نرى أن الحديث لم يعد منصبا على الذكاء بما هو قدرة عقلية فائقة في الفهم والإدراك، بل نرى الحديث يدور عن الذكاء الاجتماعي والعاطفي والذي يعني قدرة على ضبط النفس والقدرة على إدارة علاقاته وفق الاحترام وتبادل الثقة والتعاون والتسامح، والنظر في العواقب فتراه يتراجع عن موقف ما لا لأنه ليس بمنطقي بل لأنه يؤدي إلى نتائج سلبية كثيرة.

ومن المواقف التي تميز أهل الحكمة هي أوقات الشدة والمصائب والظروف القاهرة، حيث ينهار أصحاب النفوس الضعيفة ويحيط بهم اليأس ويفقدون الأمل بحدوث تغيير إيجابي، بينما يحافظ الحكيم على هدوئه النفسي ولا ييأس من تغير الواقع فهو صاحب تفاؤل، فهذه الحياة بظروفها الحالية لا تبقى على ذلك بعد حين من الزمن، فمهما كانت المشكلة معقدة ومتفرعة بما يصعب حلها، فهو لا يفقد الأمل من خلال البحث عن مخارج مناسبة.

كما أن التحكم بالنفس عند ارتكاب خطأ أو الهم بفعله هي من سمات الحكماء، حيث يصعب على الكثير التراجع عن الخطأ أو تغيير الخطة التي رسمها لتحقيق هدفه بعد أن اكتشف بعض الثغرات فيه، كما أن الحكيم يتعرف على قدراته ويقيم ذاته بعيدا عن الزهو والإعجاب فلا يضعها في غير مكانها بما لا يتناسب مع إمكانياته.