آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

سيهات والخليج.. والغنائيات الكثيفة

أثير السادة *

الانجازات الأخيرة لنادي الخليج كانت مناسبة لإعادة التغني بالمكان، واستعادة الإرث الغنائي لهذه المدينة والذي كتب الكثير منه في لحظات الافتتان بهذا الصرح الرياضي، إلى الحد الذي أصبحت فيه صور المكان منحوتة من رسم النادي وإسمه، فمنذ حمل مسماه الجديد ”الخليج“ والماضي والحاضر يعاد صياغته للتعبير عن الانتماء للبحر، والبحارة، والانشغال بتمجيد السفينة والدانة.

الحضور الكثيف لهذه المفردات سيخرج من غنائية القصائد المكتوبة لهذه المدينة ليدخل في سرديات الناس لهويتهم، حميمية العلاقة مع النادي ستتحول إلى حميمية أخرى مع صور البحر، فوجدان الكائن السيهاتي أكثر تعلق بزرقة الماء وبياض الأشرعة وحساسية الهواء الرطب القادم من الساحل.. على الصعيد النفسي والعاطفي، تصبح للبحر حظوته حين الحديث عن كائنات تعتقد بأنها دانة، خليج، وسفينة لا ترسو إلا على شواطئ النجاح.

بهذا يمكن أن نفهم هذا الاحتفاء بتجربة الشاعر ”حبيب الحميدي“ التي صاغت أشكال الفرح في بداية الثمانينات عبر قصائدة الغنائية التي زاوجت بين الخليج وسيهات، ورمزت البحر والسفينة والدانة، باعتبارها الصور الأكثر دهشة في سيرة هذه المدينة، فهو حين يريد وصف المدينة ينظر إلى الشرق منها فقط، إلى عظمة الماء في مده وجزره، وإلى غموضه وتحدياته، ليصوغ صوره الشعرية التي استقرت في ذاكرة الناس كدليل عاطفي لعلاقتهم بالمكان.

المفتونون بهذه الغنائيات سيحرصون على وصف الحميدي ب ”شاعر سيهات“، لأنه توسل بالمكان في نصوصه المنذورة للنادي من جهة، ولأنه جعل من كل غناء للنادي هو غناء للمدينة الصغيرة وأحلامها من جهة أخرى، أي أنه كان الحارس لهذه المسافة العاطفية بين الاثنين، والتي تشكل الوقود المحرض على استمرارية التفاعل مع النادي واقتراح شكل علاقته بالناس.. في تعبيراته الشعرية لا يحضر من سيهات إلا ما يشبه الخليج، ويصعد من مجازاته وأوصافه، الأمر الذي يفسر غياب الوجه الآخر للمدينة عن نصوصه، والتي سنجدها حاضرة في تجربة أخرى حديثة وهي تجربة الشاعر ”حسين إبراهيم الشافعي“.

في قصيدته الأخيرة الموسومة ب ”وهاهو النسر هز السعف واحتفلا“، يلوح الشافعي للخليج مرحبا ومهنئا على طريقته وهو يستدعي إلى جانب البحر صور القوة والثبات في النسر والجبل، قائلا: حيوا الخليج وحيوا البحر والجبلا/ حيوا النسور التي لا تعرف الفشلا.. قصيدة تشبه قصائد الفخر في مبانيها ومعانيها، إلا أن اللافت فيها هو تجاوزه لمركزية البحر في التغني بالخليج، قد يكون لحضور النسر الأخير ضمن شعار النادي محرضا في ذلك، إلا أن الاحتفاء بالجبل والسعف يأخذنا إلى طبيعة تصورات الشاعر عن المكان، وشكل تفاعله معه، يقول: عاث الغبار على سعفاتها زمنا/وهاهو النسر هز السعف واحتفلا.

للشاعر قصائد أخرى تضرب موعدا مع التغني بمدينته، تؤكد لنا طبيعة ارتباطه بالمكان، وانغماسه في طبيعتها وذاكرتها، فهو القائل: ازرعوا سيهات اترنجا ونخلا/ودعوها تبعث البسمة دلا، والقائل: وفي مقلتي سيهات شمس تمدني/بأحلى بهاء فالفؤاد بها هني.. غنائيته العالية تفترض الكثير من الصور الجميلة لهذه المدينة، غنائية تستوعب جمالية المكان الذي يبدو مبتورا في النصوص المقابلة عند الحميدي.. فسيهات في نصوصه بحر ونخل وزرع وجبل وشمس تهب الضوء والحياة.

الشاعر الذي قال ”تسيّهت حتى قد سهوت عن الملا“ لا يخفي علاقته الخاصة بغرب سيهات، أي الوجه الأخضر منها، يعلن صراحة افتتانه بماء العيون، ويخص عين الكعبة بالمديح، ليختم واحدة من قصائده العامية بالقول: من يراودني الضجر والاضطراب/اتجه غربش ويغرب كل ضجر.. تصبح قصائدة غنائية أكثر حين يذهب بها إلى العامية، حيث يغترف من اللهجة المحلية مفرداتها وتعابيرها، فسيهات بالنسبة له عروسة، وعصريات ملونة بألوان الزهر، كما هي موجة بحر وسعفة نخيل تهمس له بالكثير من الشعر.

والنتيجة أن تجربة الحميدي لم تعرف التنوع في إيقاعها وتعابيرها، وكانت أمينة في موضوعها الغنائي لصور نادي الخليج، وهي ما يجعل من قصائده الأخيرة مجرد تكرار لإيقاع القديم، بينما انفتحت تجربة الشافعي على عناوين الفخر والغزل والحنين بمثل ما انفتحت على صور البحر والنخيل.

وبس.