آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 1:22 م

ما خلف الصورة‎‎

ورد عن أمير المؤمنين : ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه» «الكافي ج 2 ص 362».

تنقدح في الذهن صورا مسيئة للغير بسبب تفسيرنا الواهم لكلام صادر منه أو سلوك أو موقف نراه بعيون ضيقة، ولا نتحدث عن الحكم الأخلاقي لذلك فميزان التعامل بالمثل الذي يوافق بين ما نتحدث به ونواجه به الآخرين كما يعاملوننا بالحسنى يرفض حمل صور قبيحة للغير مبنية على وهم وتخيل لا دليل عليه، ولا نتحدث عن موازين العلاقات الاجتماعية القائمة على الاحترام والتعامل بالحسنى وعدم التعدي على حقوق الغير معنويا ولا ماديا، فإن التصورات السيئة المبنية على الظنون تشعل نار الكراهية والحسد والخصومات وتمزق عرى التعاون والثقة بين أفراد المجتمع، وإنما أثر هذه الظنون السيئة علينا نفسيا وأخلاقيا ودورها في تدمير النزعة الإيمانية والروحية واليقظة الفكرية التي نتمتع بها، فالفكر إذا انساق نحو تصور ما تحمله كلمات وسلوكيات الآخرين وتحميلها تفسيرات تخمينية وتهيؤ، سيكون له الشغل الشاغل استحضارها مما يؤدي إلى فتور همته عن العمل الصالح وأداء العبادات ويميل إلى شيطنة الكثير من الناس، حيث أن اتباع الشيطان الرجيم والنفس الأمارة بالسوء في سوء الظن بالغير يقدح شرارة ازدراء الغير واتهامه النفسي بالباطل، مما يولد حالة من اسوداد القلب واستيلاء العبثيات التفكيرية على المرء حتى يغدو معملا لتكرير الظنون والتهم.

من العوامل المؤججة للظنون السيئة عند الإنسان هي حالة الحساسية الزائدة تجاه ما نسمعه أو يتعامل به الغير معنا، حيث أن الفرد المرهف عاطفيا بنحو مفرط يشعر بأن كل كلمة تحمل نقدا هي موجهة إليه وهو المقصود بها وإن كان الكلام بنحو عمومي، وكذلك الحديث عن السلوكيات والظواهر السلبية بشعر بأنه سهام تصوب نحوه، كما أنه يحمل أي تصرف معه على نحو الإساءة التعمدية وقصد تجاهله إن لم يتفاعل الغير مع كلامه أو تحيته مثلا، مما يخلق عند المرء حدة في التعامل واتخاذ القرارات المتسرعة تجاهه والتي تصل إلى حد النقاشات الانفعالية والخصومة معه، وهذا ما نشهده اليوم - وللأسف - على ساحة النقاشات في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يكون النقاش حول فكرة معينة وتطرح الآراء ووجهات النظر المختلفة بأسلوب علمي ومنطقي، وإذا بدفة الحوار تتحول إلى شخصنة الموضوع وتوجيه النقد اللاذع لصاحب الفكرة لا للفكرة ذاتها.

أحد العوامل المؤدية لذلك هو الحساسية المفرطة إذ يشعر أن الحديث حول الخلاف الزوجي أو الحرمان من الذرية أو قلة المورد المالي أو غيرها إنما هو هجوم غير مباشر عليه، وهذه المشكلة إن لم يلتفت لها الفرد ويحاول معالجتها فستتحول إلى نقطة ضعف في علاقاته الاجتماعية، والمعالجة تبدأ من الثقة بالنفس وحسن الظن بالغير وترك التأويلات البعيدة وتضخيم كل موقف بما لا يتحمله، كما أن الإساءة وإن قصدها أحد من الناس فلا يبددها إلا عدم إعارتها أي أهمية، وإلا فإنه سيكون سهل المنال لمن يحاول استفزازه وإخراجه عن اتزانه الفكري والوجداني والنفسي.

وكم من المشاكل الأسرية والاجتماعية انقدحت شرارتها بفعل واهم اتبع ظنونه السيئة وخيالاته المريضة، فأعطى موضوعا معينا مسار الخلاف والمشاحنة حتى استقرت في النفوس المعينة بالأمر الكراهية والخصومة، حتى أننا نرى بعض الخلافات قد تطاولت سيقانها وامتدت فروعها وكبر حجمها بما أفقد الأمل عند الكثير من اقتلاع جذور الأحقاد، وكانت البداية تأويلات لا أساس لها ولم يكن هناك من عقلاء انبروا لاحتواء الموقف وتهدئة النفوس وتبديد غمامة الدخان.

حسن الظن وحمل الكلمة والموقف على ظاهره دون اللجوء للبحث عما يقع خلف تلك الصورة هو أساس السعادة والهدوء النفسي للفرد، بما يجنب المجتمع القلاقل والخلافات الناشئة من الأوهام التي حاكت حدثا وفق تصوره الخاص غير المبني على أسس عقلائية، كما أن الأسر اليوم تأن من الخلافات المبنية على الظنون السيئة بين الزوج وزوجته أو بين الأرحام، حين يحول المرء تخيلاته وتفسيراته الخاصة الوهمية لموقف إلى حقيقة يبني عليها الجميع اختياره وقراره.