حين تبدو الأشياء وهمًا، فهل ذلك يعتبر وهمًا أم بصيرة؟
المتلازمة النفسية التي تدعى الاغتراب عن الواقع تثير أسئلة أخلاقية وفلسفية عميقة
بقلم جون هورغان
14 يونيو 2022
المترجم : عدنان أحمد الحاجي
المقالة رقم : 185 لسنة 2022
When Things Feel Unreal، Is That a Delusion or an Insight?
The psychiatric syndrome called derealization raises profound moral and philosophical questions
By John Horgan
June 14,2022
هل سبق لك وأن استحوذت عليك الشكوك في أنه لا يوجد هناك شيء حقيقي؟ طالبة في معهد ستيفنز Stevens للتكنولوجيا، حيث أدرس هناك [الكلام لـ جون هورغان John horgan، مؤلف هذه المقالة]، قاست من الشعور بالوهم منذ طفولتها. أعدت مؤخرًا فيلمًا عن هذه المتلازمة في مشروع تخرجها، حيث عملت مقابلات مع نفسها ومع آخرين، بمن فيهم أنا [لكلام لـ جون هورغان]. ”يبدو الأمر وكأن هناك جدارًا زجاجيًا بيني وبين كل شيء آخر،“ [المترجم: الجدار الزجاجي هنا استعارة تعني هناك عائق يمنع من التقدم] ”تقول كاميل Camille في فيلمها الذي سمته“ الاغتراب عن الواقع وتبدد الشخصية [1] . "
فيلم الاغتراب عن الواقع وتبدد الشخصية [2] يشير إلى المشاعر التي مفادها أن العالم الخارجي والذات، على التوالي، غير واقعيَّين. وعند وضع المصطلحين معًا، يعرّف أطباء النفس اضطراب تبدد الشخصية / الاغتراب عن الواقع على أنه ”شعور مستمر أو متكرر... الشعور بالوهم أو الانفصال عن الواقع أو بكون الشخص هو مراقِبًا من خارج ذاته لما يتعلق بأفكاره أو مشاعره أو أحاسيسه أو جسده أو أفعاله،“ وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية [3] . لتبسيط المصطلح، سأشير إلى كلتا المتلازمتين بمصطلح واحد فقط: الاغتراب عن الواقع.
بعض الناس يشعرون بالاغتراب عن الواقع بشكل مفاجيء، والبعض الآخر فقط حين يتعرض لظروف ضاغطة نفسيًا - على سبيل المثال، حين يأخذون اختبارًا أو تُجرى لهم مقابلة للحصول على وظيفة. يوصف أطباء النفس لهؤلاء علاجًا نفسيًا وأدوية، كمضادات الاكتئاب، عندما تؤدي المتلازمة إلى ”ضائقة أو ضعف في الأداء في المجالات الاجتماعية أو المهنية أو غيرها من مجالات أداء مهمة من المهمات.“ في بعض الحالات، يحدث اضطراب الاغتراب عن الواقع بسبب مرض عقلي خطير، كالفصام أو مسببات الهلوسة مثل تعاطي ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك Lysergic acid diethylamide ويختصر ب LSD. الحالات الحادة، التي عادةً يصاحبها تلف في الدماغ، قد تتجسد على شكل متلازمة وهم كوتار [4] ، وتسمى أيضًا متلازمة الجثة السائرة، واعتقاد المُصاب بأنه ميت؛ ومتلازمة كابغراس Capgras «[5] »، وهي اقتناع المُصاب بأن ما حوله من الناس قد استبدلهم محتالون.
يسعدني أن كميل لفتت الانتباه إلى الاضطراب، لأن اضطراب الاغتراب عن الواقع يثير أسئلة فلسفية عميقة. اقترح الحكماء القدامى والمُحْدثون أن الواقع اليومي، الذي نزاول فيه أعمالنا اليومية، هو مجرد وهم [6] . شبه أفلاطون تصوراتنا للأشياء بظل على جدار كهف. أما الفيلسوف الهندوسي آدي شانكارا Adi Shankara في القرن الثامن أكد أن الواقع المطلق هو مجال وعي أبدي غير متمايز. أما عقيدة أناتا anatta البوذية تقول أن ذواتنا الفردية وهمية / غير حقيقية [7] .
الشكل: أعراض تبدد الشخصية / الاغترلب عن الواقع
يفترض الفلاسفة المعاصرون مثل نيك بوستروم Nick Bostrom أن كوننا [فضاءنا الزمكاني [8] ] هو على الأرجح محاكاة، واقع افتراضي خلقه مخلوق فضائي مكافيء لمخترق مراهق يشعر بالملل. الموقف الفلسفي المعروف باسم الذاتوية solipsism [9] » يلمح إلى أنك الكائن الوحيد الواعي في الكون؛ وكل من حولك يبدو وكأنه واعٍ فقط[10] . كما ذكرت في مقال العمود الصحفي، فإن بعض تفسيرات ميكانيكا الكم تقوض حالة الواقع الموضوعي. هل يمكن أن يكون الاغتراب عن الواقع مصدر إلهام لكل هذه الحدسيات الميتافيزيقية؟
وحدة الأنا
تقترح كاميل أن العديد من الناس يتعرضون إلى نوبات من الاغتراب عن الواقع دون معرفة حقيقتها. الشعور بها يربكك، لذا تقمعها وتنساها، ولا تذكرها لآخرين. توضح كاميل: ”تخشى أنك لو أخبرت بها الناس، فلن يعرفوها، ولا تريد أن ينظر اليك على أنك شخص مختلف.“ أنا أتفهم ردود الفعل هذه، لأن الاغتراب عن الواقع يمكن أن يكون مقلقًا، بل ومرعبًا.
أخطر نوبات الاغتراب عن الواقع حدثت لي بعد أن تعاطيت مخدرات في عام 1981، مما جعلني مقتنعًا بأن الوجود هو كابوس الحكمة المجنونة «[11] ,[12] ». على مدى عدة أشهر، شعرت وكأن ما حولي غير ثابت ومهلهل، كشاشة عُرضت عليها صور. كنت أخشى أنه في أي لحظة قد يتلاشى كل شيء، ويفسح المجال أمام - حسنًا، لا أعرف ماذا، ومن هنا انتابني الخوف. هذه المشاعر قد فقدت قوتها العميقة، لكن عواقبها الفكرية لا تزال قائمة.
التأمل في الاغتراب عن الواقع يتركني في حالة صراع. لدي هواجس أخلاقية [6] بشأن الادعاء بأن الواقع ليس حقيقيًا [13] . هذه التأكيدات، سواء أكانت أفلاطونية أو فرضية محاكاة [14] أو ثايلوجيا الحكمة المجنونة، يمكن أن تصبح بسهولة هروبًا من الواقع [15] وعدمية [16] . لماذا علينا أن نقلق بشأن الفقر والاضطهاد وتدمير البيئة والأوبئة والحروب وموارد المعاناة الأخرى إذا كان العالم يُعتبر مجرد لعبة فيديو؟ أرفض أي فلسفة تقوض مسؤوليتنا عن رعاية لبعضنا البعض.
ومع ذلك، فقد انتهيت إلى تقدير قيمة الاغتراب عن الواقع باعتباره ترياقًا للتعود [17] . أدمغتنا مصممة لإنجاز العديد من المهام وذلك ببذل أقل جهد ممكن بشكل مقصود. نتيجة لذلك، اصبحنا متعودين على فعل الأشياء بلا تفكير؛ نحن نأخذها كأمر مفروغ منه ومسلم به. نصبح كالزومبي «الجثة المتحركة[18] أو آلة ذاتية التشغيل، حين نقوم بأعمالنا المنزلية وعندما نتفاعل مع الآخرين - حتى أولئك الذين يُفترض أننا نحبهم - دون أن نكون ملتفتين التفاتًا كاملًا لما نفعله.
يُعتبر الاغتراب عن الواقع كصفعة على الوجه. يكسر رتابة الحياة ويوقظك. ويذكرك بغرابة العالم والآخرين ونفسك. أعني بالغرابة اللًّانهائية اللااحتمالية وألَّاتعليلية. الغربة تشمل جميع الخصائص ثنائية القطب لوجودنا، وجماله وقبحه، ولطفه وقسوته، وخيره وشره،
ملاحظتنا الغرابة لا تلغي مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الآخرين. بل على العكس من ذلك. بإبعاد نفسي عن العالم، الاغتراب عن الواقع، للمفارقة، يجعله هذا الإبعاد عن العالم أكثر واقعية. الاغتراب عن الواقع يساعدني على معرفة الإنسانية بشكل أكثر وضوحًا والاهتمام بها بشكل أعمق. ما كان يبدو وكأنه نقمة أصبح نعمة.
هذا ما أقوله لنفسي، على أي حال. آخرون، بمن فيهم من قابلت كاميل لانتاج فيلمها، وكاميل نفسها، يشعرون بالاغتراب عن الواقع بشكل مختلف. كاميل تنظر إلى متلازمة الاغتراب عن الواقع على أنها ”طريقة من طرق الدماغ لأخذ قسط من الراحة. فالدماغ يعتقد أنه لا يمكنك القيام بأشياء معينة، وبالتالي يتوقف عن العمل“. لقد تعلمت كاميل أن ”مجرد تركها لتلك المشاعر تأخذ مجراها“ بدل أن تتصارع معها، فإن ذلك يساعدها على تجاوز نوبات الاغتراب عن الواقع التي تنتابها. أيًا كان ما يعنيه الاغتراب عن الواقع بالنسبة لنا، فنحن نتكيف معه، ونصبح بالتأكيد أفضل حالًا لو استطعنا الكلام عنه بصراحة، كما تفعل كاميل وآخرون في فيلمها الجريء والكاشف.