آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

«جماليات توظيف التراث الفلسفي في النص الأدبي وإشكاليات التوظيف»

حسين الخليفة مجلة اليمامة - العدد الأخير

تعتبر كلمة «الدور» من المصطلحات الفلسفية الكلامية، وقد عُرِّفَ المصطلح المذكور ب «توقف وجود الشيء على نفسه»، وهو يعني أن الشيء يكون في وجوده سبباً لوجوده، فيكون علةً ومعلولاً في الوقت نفسه. وقد أشار القرآن الكريم إلى المعنى المذكور بصيغة الاستفهام الإنكاري من خلال قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ سورة الطور، آية «35»

فمن غير الممكن أن يكون البشر قد خُلقوا من لا شيء، لأن ال «لا شيء» فاقد للوجود فكيف يكون بإمكانه إفاضة الوجود؟!

وأمَّا افتراض أنهم قد خلقوا أنفسهم - وهو محل حديثنا - فباطل للزوم الدور، فلو افترضنا ذلك، فلا بد - والحال هذه - أن يكونوا موجودين قبل أن يخلقوا أنفسهم حتى يخلقوا أنفسهم، فإن كانوا موجودين فكيف يخلقون أنفسهم وهم موجودون، فهذا «تحصيل حاصل» وهو باطل أيضاً، ومن هنا يتقرَّر بطلان الدور، وتبطل - حينئذٍ - فرضية الخلق الذاتي.

ومن جماليات النهل من التراث العقلي أن يأتي شاعر ويوظف مصطلح «الدور» الفلسفي - مع إحالة معرفة نوع «الدور» الموظف إلى حقله الخاص -، وينزله منزلة التحقق في الخارج من خلال علاقته مع محبوبته، يقول الشاعر:

مسألةُ الدورِ جرتْ
بيني وبين من أُحبْ

لولا مشيبي ما جفا
لولا جفاه لم أشبْ..!

فكان مشيبه سبباً لجفاء المحبوب له وكان جفاء المحبوب له سبباً لمشيبه..!

إنَّ ما يُحسب للنص أنَّه اقتحم ساحة العلوم والمجالات العقلية الدقيقة ك «الفلسفة وعلم الكلام» - وهما مجالان يتصفان بالجفاف والثقل الموضوعي في ابتعادهما بطبيعة حالهما عن لغة الأدب المفعمة أسلوباً ومضموناً بالرونق والرشاقة والظرف والدهشة والإشراق - وأنه بالرغم من ذلك قد أضفى على المصطلح الجاف شيئاً من وهج الروح الأدبية، وجعله منتمياً إليها بكل جدارة؛ فقد جرى في النص مجرى الماء في الوادي، ولم يشعرنا بنتوء مشوه ولا بقسرية الإقحام والتوظيف - كما هي حال ما اصطُلح عليه بتوظيف الأسطورة في الأدب الحديث الذي شكَّل من الناحية التطبيقية - في كثير من الأحيان - عبئاً ثقيلاً على النص، مما أخرجه عن العفوية الجميلة والانسيابية الضرورية والمطلوبة.

إنَّ من المحمود للنص الأدبي أن يكون غنيّاً بمحمولاته الثقافية؛ ليكتسب صفة البقاء والديمومة من حيث التلقي العام والدرس والتناول التخصصيين، ولكن بشرط امتلاكه القدرة على امتصاص المادة الموظفة وصهرها في جسم النص، فتكون عنصر إشعاع في فضائه وتكون علاقتها معه من حيث العفوية والانصهار والانسيابية كالعلاقة التي أنشأها الصاحب بن عباد بين القدح والشراب في قوله:

رقَّ الزجاجُ وَرَقَّت الخمرُ
وَتشابها فَتَشاكل الأَمرُ

فَكَأَنَّما خمرٌ وَلا قَدحٌ
وَكَأَنَّما قَدحٌ وَلا خمرُ

فمن الأنسب والأولى للأديب أو الشاعر أن يتماهى مع المادة المراد استحضارها أو توظيفها في نصه ليتألق حاملاً لها لا مجرَّدَ محمَّلٍ ليس غير...

وشتان ما بين نص انسيابي محلِّقٍ في حمله المتماهي معه، وبين نص محمَّل مثقل بالنتوءات النافرة والمشوهة أيضاً، نص يضحي - لاستعجال متلبِّس براهن نمطي براقٍ - بما من شأنه أن يمنحه الديمومة التداولية والبقاء القرائي، وهما صفتان إن خلا منهما نص امتلأ بما شئتَ من امتلاء، وخلا من أدبيَّته التي كان لها ويَحسَب أنه بها كان.