آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 9:08 م

لواعج الأشجان

ورد عن أمير المؤمنين : فقد الأحبة غربة» «نهج البلاغة ج 2 ص 156».

كلمة وازنة من سيد البلغاء والذي قاسى - بحق - جمرة تساقط النجوم من حوله الواحد تلو الآخر، ممن كانوا يستوعبون نهجه ويفهمون أفكاره ويتوافقون مع سيرته المتضمنة للعدل والتقى والاستقامة، وتتضمن هذه التحفة السنية كل معاني التألم وبيان حقيقة الرحيل ومشاعر الألم لفرقتهم بعد فقد ذلك المحيط الاجتماعي الإيماني، إذ أن النفس تأنس وترتاح ويطيب لها قضاء الساعات تلو الأخرى بين من يذكرك بآخرتك، وجوه تشرق منها أنوار الطيبة والأخلاق الرفيعة والوجدان المتفاعل مع آلام الآخرين، فالانسجام الفكري والأخلاقي والنفسي مع النفوس الطيبة لا يأتي جزافا، وإنما هو وليد مواقف رائعة أثبتت صفاء قلوبهم وأصالة معادنهم وصفو مشاربهم، والزمان لا يجود بسهولة بمن يعوض مكانهم ويملأ الفراغ في القلب الذي أوجدوه برحيلهم.

الغربة الحقيقية أن تفقد أحبة جعلوا الدنيا بكل مصاعبها ومتاهاتها لا تؤثر في هدوء جنانك، وذلك بسبب وجود من يشاركونك كل اللحظات في حياتك على تنوعاتها وتلاوينها، فالفرحة لا تملأ قلبك إلا بوجود من يشاركونك تلك اللحظات الجميلة، وفي المقابل فإن ما يهون الأحزان ومتاعب الحياة هم أصحاب القلوب المعطاءة فيواسونك ويخففون عنك همومك، وتشعر بالغربة إن فارقك أحباب القلب فتحرقك جمرة الألم حينما تختفي بسمتهم، فلا تجد من يمسح دمعتك ويكفكف أحزانك، كيف وقد ضمتهم اللحود وأقبروا تحت التراب.

الغربة المتبادرة لأذهان الناس هي مفارقة الديار والانتقال إلى بلد أخرى، حيث يتناوش المرء مشاعر الألم والحسرة على تلك البقعة التي جمعته بمن عاش في أوساطهم ويتبادل معهم مشاعر المحبة، ويهيج به الحنين للعودة إلى مسقط رأسه كلما أخذه خياله نحو تذكر الكلمات والمواقف، بل ويتفاعل معها وجدانه ومشاعره فترتسم البسمة على وجهه تارة ويتجهم ويعتصر ألما تارة أخرى، فمهما كانت الكلمات رقيقة وبليغة لتعبر عن مفهوم الفراق فإنها لا تبلغ حده ووصفه أبدا.

والغربة الحقيقية وهي تعلو درجات الإحساس بالوحدة حينما تحل اللحظة المؤلمة بالوقع المفجع برحيل أحد الأحباب من دنيانا على حين غرة، وتتنوع درجات الإحساس بالألم لرحيلهم ما بين المفاجأة وبلا سابق إنذار، وبين من تزداد الحسرة عليه إذ لا نشعر بقيمة وجوده في دنيانا إلا بعد إلحاده في القبور، وتقادم الزمن لا يعني تلاشي صورهم ورنة ضحكاتهم في آذاننا بالبتة، إذ وجودهم محفور في القلب والذاكرة فلا يغادرونها أبدا، بل يزداد الشوق والحنين إليهم كلما أشارت عقارب الساعة إلى دخول يوم جديد، وهل يمكن لعين ارتوت من رؤياهم ولقلب أحيط بدفء حنانهم أن يتلاشى ذكرهم هكذا بسهولة؟!

الموت حقيقة لا مفر منها ولابد من نهاية للتلاقي وكأن تلك السنين التي جمعتهم واحتوتهم بمواقف ولحظات جميلة مرت كحلم استمر لثوان، وصعوبة الفراق لا يمكن لأبلغ الكلمات أن تعبر عن مرارتها وألمها، فهي كالجمرة لا يشعر بحرارتها إلا من تمس يده، والصبر على المصاب يعني تحمل ذلك الفقد باعتقاد أنه رحل إلى عالم الرحمة بين يدي الجليل، ولكن مضي السنين لا يورث النسيان بل تبقى في القلب لوعة فراقه وتهيج من جديد مع كل موقف نستحضر وجوده فيه، وكل جرح توضع عليه الضمادة سرعان ما يلتئم ويتشافى إلا جرح الرحيل فإنه يبقى نازفا مهما حاولنا مداواته بالتصبر، ولكنه التسليم بقضاء الله تعالى والإيمان بأن الموت ليس بفناء بل هو انتقال إلى دار الخلود والراحة الحقيقية غير الممزوجة بالمنغصات والآلام.

الحروف تتناثر وتتبعثر وتعجز عن التعبير عن الأحزان ولوعة الفراق، فالمشاعر الجياشة أكبر من أن تحويها العبارات ولكنها تكون نوعا من المداواة عن لواعج الأشجان والتهاب الأحاسيس وضيق الصدر، وما يؤلم القلب تنقله بين الواقع الذي سقط فيه من حساباته أعز الناس وبين ماض جميل تملأ صفحاته الذكريات الجميلة.

القلب مطمئن بقضاء الله تعالى وحقيقة الرحيل الحتمي لكل نفس، ولكن الوجدان يصعب عليه تصديق ما بعد الرحيل وأنه لا يمكن رؤية محياهم مجددا على هذه البسيطة، إنها الدنيا الفانية التي لا خلود لأحد فيها، فنسأله تعالى الغفران لمن مضوا وتركوا ندب الجروح في قلوبنا، وأن يرزقنا النباهة من الغفلة والبعد عن النقائص والعيوب.