آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

دروس من كأس العالم 2: النفوس المريضة

علي طالب آل ناصر

﴿وَلَا تَعْتَدُوٓاْ ۚ إِنَّ آللَّهَ لَا يُحِبُّ آلْمُعْتَدِينَ [البقرة، 190]

أُقيمت يوم السبت 10 ديسمبر 2022 ثالث مباريات ربع النهائي لكأس العالم بين المنتخب المغربي ونظيره البرتغالي، وانتهت المباراة بفوز المغرب بهدف مقابل لا شيء سجله مهاجم نادي إشبيلية الإسباني اللاعب يوسف النصيري في الدقيقة الثانية والأربعين برأسية من قفزة أصبحت حديث الصحف في وقتها، حيث بلغ ارتفاعه لحظة ضرب الكرة 2,78 م[1] . وبعد المباراة انتشر فيديو صوره أحد الصحافيين لطفلة مغربية تعبر عن فرحتها بتأهل المغرب، حيث قالت: «مطار البرتغال في هذا الاتجاه. وأين هو رونالدو؟ إنه يبكي في سيارته. يا له من مسكين» [2] . ظننا أن موضوع الطفلة انتهى ونسيته الجماهير، لكنها عادت للواجهة بعد خسارة المغرب مباراة نصف النهائي أمام المنتخب الفرنسي بهدفين دون رد. فإذا ببعض هؤلاء المشجعين أظهروا الضغينة المكبوتة في نفوسهم وتنمروا على الطفلة في وسائل التواصل الاجتماعي لدرجة أنها ترفض الطعام والشراب نتيجة إصابتها بالاكتئاب، ما حدا بوالدتها أن تعتذر لمشجعي رونالدو في وسائل الإعلام عما بدر من ابنتها[3] .


شهدت كأس العالم الأخيرة المقامة في قطر أكبر تواجد للمنتخبات العربية في تاريخ البطولة بالتساوي مع النسخة السابقة في روسيا[4] ، حيث تأهلت أربعة منتخبات للمرة الثانية على التوالي. فالإضافة إلى المنتخب القطري - الذي شارك في البطولة بدون تصفيات بحكم كونه البلد المستضيف - تأهلت منتخبات السعودية من آسيا، وتونس والمغرب من أفريقيا، وكان من الممكن أن يرتفع العدد إلى 6 لولا خسارة كلٍّ من المنتخبين المصري والجزائري في المباراة المصيرية في التصفيات. وبعد الأداء المبهر الذي قدمته المنتخبات في الجولة الأولى من دور المجموعات تفاءل المشجع العربي خيراً. لكن خابت الآمال وتبددت، وخرجت المنتخبات العربية من مرحلة المجموعات باستثناء المنتخب المغربي الذي تأهل متصدراً المجموعة بسبع نقاط «فوزين وتعادل» ولم تستقبل مرماه سوى هدفٍ واحد سُجل عن طريق الخطأ، ليكون بذلك أول منتخب عربي يتأهل للمرحلة الإقصائية متصدراً مجموعته. فاصطفت الجماهير العربية وراء المنتخب المغربي، وساندته في كتابته للتاريخ في كأس العالم، حيث أطاحوا بإسبانيا في ثمن النهائي بركلات الترجيح بعد انتهاء الوقتين الأصلي والإضافي بالتعادل السلبي، ثم إقصاء البرتغال بهدف نظيف، فأصبح المغرب أول دولة أفريقية وعربية تصل لنصف النهائي.

ونحن نتابع نتائج المنتخب المغربي، وكيف كان يقصي كبار المنتخبات واحداً بعد الآخر كنا نشعر بالفخر والسعادة، الفخر للإنجازات التي حققها منتخب عربي شقيق، والسعادة لأننا أدركنا أننا أمة واحدة مهما فرقتنا السياسة، تساند منتخباً واحداً، وترمي بثقلها معه، وتسير خلفه حيثما سار. لكننا للأسف لا نعيش في عالم مثالي، بل عالم واقعي دنيوي لا يخلو من أن تشوبه شائبة، فبعض الضعاف ومرضى النفوس كانوا يتحينون اللحظة المناسبة من أجل التشفي من طفلة بريئة ذنبها الوحيد أنها عبرت عن فرحها بفوز منتخبها، وفي اعتقادي أنها لم تكن مدركة وواعية لما تقول بشكل كلي، بل غالب الظن أنه كان تقليداً ومحاكاةً لمن حولها، ومن أجل من؟ من أجل شخص - مع احترامنا له ولمسيرته الحافلة بالإنجازات - لا تربطنا به رابطة دينية أو ثقافية أو عرقية أو لغوية أو تاريخية! فقد اتهم البعض والدي الفتاة بسوء التربية وعدم احترام شخصية رياضية معروفة لها قاعدة شعبية واسعة، بل إن البعض الآخر وصل به الحال إلى درجة أنه تمنى للفتاة الموت، ومنهم من طعن في عرض الفتاة وشرفها! فما هي الفائدة التي جنوها من وراء فعلتهم القبيحة؟! ورغم أن الفتاة لم ترتكب ذنباً تستحق عليه اللوم - بل إنها هي من تستحق الاعتذار لما عانت بسببهم - فإني لا ألوم والدتها على اعتذارها، فهي لا تريد منهم سوى أن يتركوا ابنتها وشأنها ويدعوها تعيش بهدوء وسلام. وفي رأيي أن الصحفي الذي صور الفيديو ونشره هو المسؤول الأول عما آلت إليه الأمور. ففي عصر الإنترنت يمكن لأي محتوى يُنشَر على الشبكة العنكبوتية أن يصل لكل العالم في دقائق معدودة ويسبب عقداً وأمراضاً نفسية للمعتدى عليه، ما يمكن أن يؤدي لحد تدمير حياته. ويمكن أن يمتد أثر هذا التنمر والهجوم لأبعد من ذلك، فهو قد يحول الشخص إلى مجرم لا يرحم. ففي صباح الرابع والعشرين من مايو لعام 2022 استيقظت الولايات المتحدة على خبر مفجع، حيث قام مراهق يدعى سلڤادور راموس يبلغ من العمر 18 عاماً باقتحام مدرسة روب الابتدائية بمدينة أوڤالد الواقعة بولاية تكساس، وأطلق النار وتسبب بمقتل 19 طالباً ومعلمين اثنين قبل أن تتدخل الشرطة وتقتله، وكان قبل اقتحام المدرسة قد قتل جدته رمياً بالرصاص[5] . وبعد البحث والتحقق اتضح أن القاتل كان في طفولته يتعرض للتنمر من أقرانه وزملائه في المدرسة، ما جعله عدوانيًّا وعنيفاً وزرع في نفسه الرغبة في الانتقام[6] [7] [8] . بالإضافة إلى ذلك فإن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين كان يتعرض في طفولته للمضايقة من الصبية الآخرين، «حتى إنه كان يضطر للتسلح بقضيب من حديد عندما يخرج إلى الشارع للدفاع عن نفسه إن دعت الضرورة» [8] ، وفي المدرسة كان يزامل طلاباً يصغرونه سنًّا ويتعرض للسخرية، ما حدا به للانتقام منهم لاحقاً[9] .

وفي هذه الحالة لا بد لنا من الإشارة إلى ظاهرة التنمر بين الأطفال - خصوصاً في المدارس - وتوعية المجتمع بمخاطرها وما يترتب عليها من آثار سلبية. فالتنمر عادةً ما يقع على الطفل الضعيف، ولضعفه فإنه لا يقوى على رد الاعتداء، ومع التكرار ستتراكم لديه الضغائن والرغبة في الثأر، وعندما يكبر ويرى نفسه قويًّا بما فيه الكفاية فإنه سيصب جام غضبه على من هم أضعف منه لسبب ربما يبدو تافهاً في نظرنا وقت اعتدائه، ولكنها في الواقع تراكمات ترسبت في قلبه على مر السنين، ثم يفرغها في أقرب مخرج - يتنمر على من هو أضعف منه - ثم تستمر هذه السلسلة إلى ما لانهاية. وهنا يبرز دور كلٍّ من الأسرة والمدرسة في مقاومة هذه الظاهرة، فالأسرة يجب عليها أن تعلم أبناءها احترام الآخرين وعدم الاعتداء والتنمر عليهم، وتشجعهم في نفس الوقت على اللجوء لإدارة المدرسة عند التعرض للتنمر. أما المدرسة فدورها الاستماع لشكاوي الطلاب وأخذها على محمل الجد، واتخاذ ما تراه مناسباً من إجراءات. كما أنه لا بد أن يكون هناك تواصل بين البيت والمدرسة للاطلاع على أوضاع الأطفال وتصحيح ما يحتاج لتصحيح.


الكثير منا يحب كرة القدم وله فريق أو لاعب يعشقه ويشجعه، ومن حقه الفرح والاحتفال عند الفوز، والحزن والبكاء عند الخسارة، أما الاعتداء على مشجعي الفريق الخصم عند الخسارة فهذا أمرٌ غير مقبول، فما بالك بطفلة بريئة كانت على الأرجح لا تعي ما تقول، بل مجرد تقليد لمن حولها وترديد ما يرددون؟ فقد يكون هذا الاعتداء سبباً لتحطيم قلبها ومعاناة ستستمر معها حتى وقتٍ طويل وربما لا تنساها طوال عمرها. وختاماً نتمنى لهذه الطفلة الشفاء العاجل في أقرب وقت، وأن تكون هناك حملات توعوية للحد من هذه الظاهرة وقوانين صارمة لإيقاف كل معتدٍ عند حده ليكون عبرةً لغيره.

 


[1]  «قفزة النصيري «التاريخية» تناطح ارتقاءات كريستيانو رونالدو». الشرق الأوسط، 11 ديسمبر 2022. رابط المقال: https://cutt.ly/09h2tDv

[2]  https://youtube.com/shorts/_qH0C7cmWhI

[3]  «”حالتها النفسية صعبة“.. أم الطفلة التي سخرت من رونالدو تناشد جمهوره لوقف الإساءات». الحرة، 19 ديسمبر 2022. رابط المقال: https://cutt.ly/F9h2aUH

[4]  تأهل في تلك النسخة السعودية، ومصر، وتونس، والمغرب.

[5]  «حادث تكساس: مقتل 19 طفلا في هجوم على مدرسة ابتدائية». عربي BBC NEWS، 24 مايو 2022. رابط المقال: https://www.bbc.com/arabic/world-61574121

[6]  Binding، L. «2022، May 25». Salvador Ramos had ””domestic disturbance“ “ before shooting - what we know so far about Texas gunman. Sky News. Retrieved January 3,2023، from https://cutt.ly/J9h2Aos

[7]  Williams، A. «2022، May 26». Who is Salvador Ramos? what we know about texas elementary school shooting suspect. FOX 7 Austin. Retrieved January 3,2023، from https://cutt.ly/49h2S9k

[8]  Who was the 18-year-old Texas School Shooter? Friends Say، Salvador Rolando Ramos was bullied as a child، grew up aggressive and violent. The Economic Times. «2022، May 27». Retrieved January 4,2023، from https://cutt.ly/L9h2HF9

[8]  مجدي كامل، وراء كل دكتاتور طفولة بائسة: بدايات ظالمة ونهايات مأساوية، 2008. دار الكتاب العربي: دمشق، سوريا. ص82.

[9]  المصدر السابق، ص85.