آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 10:23 ص

الضبط الذاتي

ورد عن الإمام الجواد : «وأعلم أنك لن تخلو من عين الله، فانظر كيف تكون» «تحف العقول ص 455».

تقرير الحقائق الواضحة ليس من باب الترف أو العبث بل هو تجلية لها من بين ركام الغبار المتمثل بالانشغالات الدنيوية، وانبعاث من ظلمات الشهوات إلى نور العقل الواعي والذي يتحرك وفق ترقب النتائج المترتبة على الأفعال والأقوال، فالتقيد بحركة الضمير اليقظ ليس بتزمت أو اضطراب نفسي بل هو عين الصواب، إذ وجودنا في الدنيا وخلقتنا لم تكن لتصدر من يد القدرة والحكمة الإلهية خالية من الغاية والمقصد، بل خلق الله تعالى الدنيا مضمارا ينطلق فيه الناس وفي كل محطة ومنعطف من لحظات أعمارهم اختبار يبتلون فيه ليمتاز الأخيار الأكياس من الغافلين المتهورين، فشتان بين من تكون زمام حركته بيد شهواته ترمي به في لجج الحياة وبين من يكبح جماحها بالفارس المغوار وهو العقل الرشيد، والذي يتحرك وفق المعطيات والنتائج ليتخذ من بعدها الرأي المترجى منه السداد والتوفيق.

ويؤكد إمامنا الجواد على حقيقة إيمانية وهي رقابة الله تعالى لنا في مضمر أحوالنا والمعلن منها، فلا يغيب عنه سبحانه شيء أبدا وسيكون لذلك الجزاء المترتب عليه في يوم القيامة وهو الحساب على كل ما قدمت يداه، فكيف ينبغي أن يكون تهيؤنا واستعدادنا للتعامل مع هذه الحقيقة، إذ التغافل عنها والعيش ترفا ودعة لن يغير من واقع ارتباط الدنيا والآخرة ووقوعنا بالتالي في المحذور، والتعامل معها بشيء من الخفة وكأن الآخرة مقر بعيد وقوعه ويفسح له المجال ليفعل ما يشاء وكأن المنايا بعيدة عنا ولا تتخطفنا في أي لحظة على غير ميعاد، وهذه الدراسة للطلاب أمامنا كمثال بسيط ننطلق منه لحقيقة الرقابة الإلهية والاستعداد لها، فمن جد واجتهد واستشعر من نفسه المثابرة وفهم المواد الدراسية جاءته النتائج الطيبة، بينما ذلك المتكاسل والمهمل طوال السنة فسيسوءه الحال ويعلوه الندم، وهذه الدنيا دار اختبار في كل ما يصدر منا، ولطف إلهي يسعفه في مواجهة أعدائه «الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والأهواء» ويعصمه من الزلل وارتكاب الموبقات ألا هو استشعار الرقابة الإلهية، فيضبط نظامه الذاتي وفق هذه الحقيقة وينطلق ليأخذ بما يعود عليه بالخير والصلاح ويتجنب كل ما يعود عليه بالوبال والسوء.

وهذه النظرة الدينية «حفظ النفس عن النقائص والعيوب» تتوافق بنحو تام مع الحكم العقلي الداعي لصاحبه لتسنم أعلى الدرجات وأرقاها في طريق التكامل بالحسنات والترفع عن عالم البهيمية، فعنوان كرامة الإنسان وعزته ورفعة شأنه هو تمسكه بالأحكام العقلية وتجنب الاندفاع المتهور خلف النزوات المخلفة للخسارة البينة، وهذا ما يؤكد عليه إمامنا الجواد من خلال قوله «فانظر كيف تكون» حيث الإنسان مخير في اختيار طريقه ومدى تقدمه أو توقفه عن فعل معين هو أين سيذهب به هذا التصرف، فالدين الحنيف لا يخرج الإنسان السوي عن فطرته وطبيعته في اتخاذ قراراته وفق المصلحة العائدة عليه، وهذه القيم الدينية المستوحاة من العبادات والتكاليف الإلهية تصب في مجرى الورع عن المحارم والترفع عن النقائص واكتساب الخيرات الرافعة لشأنه، فكل فعل صادر منا إما أن يرتقي بنا درجة في سلم الرقي أو يتسافل بنا ويهبطنا إلى مستنقعات العيوب، والبحث عن النقاط الإيجابية والسلبية والموازنة بينها هو الحركة الجوهرية للإنسان ليتخذ من خلالها القرار المناسب، وكم من إنسان غير متدين ولا يحمل أي قيم عن عالم الغيب يصون نفسه عن الرذائل والعيوب؛ لأنه يمتلك عقلا رشيدا يقوده نحو المعالي ويترفع به عن العيوب المسقطة له من أعين الناس فيخسر مقامه الاجتماعي، وهكذا في قيم ديننا الحنيف يسلط لنا الضوء على مكانة أهم منها وهي الرضا والسخط الإلهي على أفعالنا.

وبين يدينا واقعنا الاجتماعي وممارساتنا فيه وتصرفاتنا مع الآخرين وخصوصا إذا كانت بعيدة عن أعين الناس ورقابتهم، فهناك من يمارس النفاق الاجتماعي ويعمل كاللص المتخفي وينتهز الفرصة لبث الفرقة والفتنة بين أفراد المجتمع، وآخر يمارس الظلم الاجتماعي في محيطه الأسري فيحرم بعضهم من حقوقه المادية كما يقع في قضايا الميراث، أو يعنفهم لفظيا ويقذف بالكلمات المسيئة وكأن الله تعالى لا يراه ولا يحاسبه يوم القيامة على ما اقترف.