آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

متلازمة الخوف من الضياع

أثير السادة * صحيفة الوطن

ربما راودتك يوماً رغبة الهروب من لحظة الاتصال بمواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها، فعزمت على الصيام عن زيارتها، والتلصص عليها، كمن يريد التخلص من واجب ثقيل، أو الظفر بفسحة من الحرية في الاختيار، لكنها سرعان ما عدت، وتراجعت عن نواياك، مدفوعاً بشيء ما من داخلك، ربما خوف، وربما وهم، يحرضك على الشعور بالخسران، وهذا عينه ما يصفه الدارسون لشبكات التواصل وتأثيراتها ب «الفومو»، اختصارا للعبارة «Fear Of Missing Out» وتعني الخوف من فوات شيء ما.

هذا الخوف تحديداً بات هو المحرض الأول على التصاقنا الدائم بشبكات التواصل، هو المكيف لمشاعرنا وأفكارنا حين تقرر أصابعنا تقليب تلك المواقع، والتطبيقات، خوف يعادل الشعور بالتيه في عالم لا مكان فيه للغائبين عن لحظة الاتصال، لذلك نذهب إليها بمحض إرادتنا لكن دون الجزم بأننا في كامل وعينا، نريد أن نتصل مع العالم طول الوقت، وأن نصاحب كل الناس، وأن نقلب صورهم وحروفهم وكل ما تضخه منصاتهم المفتوحة.

من عاش تجربة انقطاع هاتفه الجوال لدقائق أو ساعات، يعرف جيداً تلك الخيالات التي تتكاثر كالأرانب في الرأس، حيث يبدأ بالتفكير بأن اتصالاً هاماً قد فاته، أو أن صديقاً ربما كان يبحث عنه، أو أن حدثاً سيئاً قد جرى في منزله دون أن يعلم، وهكذا تبدأ سيرورة الاضطراب والارتباك لمجرد فقدان القدرة على النظر إلى شاشة الجوال لبضع دقائق، سنتغافل عن فعل المتعة الذي يؤطر هذه العلاقة مع تلك التطبيقات، ونذهب ناحية التركيز على ما يمكن أن يدخل في خانة الخسارة والفقد، حتى إذا ما أعدنا تشغيل الهاتف وجدناه ينظر إلينا ببرود، وبلا مبالاة، ووجدنا كل التطبيقات على حالها، محملة برسائل وتعليقات غير ذات قيمة!.

مجلة الثقافة العالمية الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب تركت لنا في عددها الأخير ملفاً لافتاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تترجم لمقالات تتناول عالمنا الجديد الذي تشكل وفق معطيات تلك الوسائل، واحدة منها كانت تحمل عنوان «الهروب من المصفوفة»، وفيها يستعرض الكاتب «جيكوب بوراك» نتائج دراسة ليست بالبعيدة، كانت تختبر قدرة «عينة الدراسة» على مقاومة المغريات اليومية للحياة، حيث وجدت بأن المشاركين تمكنوا من مقاومة الطعام لكنهم فشلوا في مقاومة إغراءات شبكات التواصل الاجتماعي.

مشكلة هذه الشبكات أنها لا تصل بنا إلى الحد الشبع، بل تدفعنا دفعا إلى حالة من الجوع الدائم، وهذا سر استمرار وبقاء الكثير منها حتى الآن، فهي تحاول تعزيز هذا الشعور بالنهم لمطالعة المزيد، ولمشاركة الآخرين كل لحظات الحياة، تأخذنا ناحية الاستهلاك الدائم لكل أدواتها ومساحتها المتاحة، دون أن نمتلك الرضا الكامل ولا الشبع النهائي، لنعود في كل يوم للتبضع فيها، وزادنا عين توزع النظرات والتحديقات، ويد تلمس بأصابعها مواضع الحروف، وهي تقلب الصفحات والتطبيقات الواحد تلو الآخر.

هذا التفاعل الدائم هو الوقود المتدفق لإبعاد الذات عن لحظة الشعور بخسارة شيء ما، وهو المكافأة اليومية التي نقدمها لأنفسنا حتى لا تشعر بالاستيحاش من عوالم محكومة بضغطات الإعجاب، في الوقت الذي قد نخسر فيه معركة وجودنا على أرض الواقع، ونصبح مرهقين من الركض الوهمي في الفضاءات الافتراضية، نخسر القدرة على صناعة شيء حقيقي على الأرض، وممارسة الحياة بكل حواسنا وعواطفنا، الحياة التي لا تقبل التلاعبات والمرشحات التي تتيحها منصات التواصل، حياة هي أكبر من ألبوم صور، وحزمة لايكات، وتعليقات وامضة سرعان ما ينساها الوقت.

هذا ليس بهجاء لشبكات التواصل وتطبيقاتها، بقدر ما هو تحيز لجمال الواقع الحقيقي والعيش فيه، هو دعوة للتأمل في تلك المخاوف الضاغطة التي تحاصرنا بسبب الخوف من خسران أشياء غير حقيقية وغير واقعية!.