آخر تحديث: 2 / 5 / 2024م - 5:08 م

في شهر رمضان انبلاجة جديدة

شهر رمضان محط الفيوضات والعطايا الإلهية اللا متناهية، فهو شهر المغفرة لمن استيقظت نفسه من سبات الغفلة وإدمان المعاصي دون رادع ولا حساب، وشهر البركة للمؤمنين الذين شدوا همتهم وانطلقوا في مضمار العمل الصالح وصنع المعروف وتحسين الأخلاق، فهذه فرصة ثمينة لا يمكن لعاقل أن يدعها تمر عليه مرور السحاب دون أن يغترف من شيء من معينها، والتمايز بين العباد يرحع إلى مدى معرفة المرء بعظمة وشأن هذا الشهر الكريم من عدمه، والذي جعله سبحانه نفحة من نفحاته تعدل موازين الصحف بعد أن ألهبتها الغفلة والانسياق إلى طريق الشهوات واحتطاب المعاصي والاغترار بملذات الدنيا ونسيان الاستعداد لليوم الآخر، وهاهي الجوائز السنية تهدى إليه والثواب مضاعف وتعتق فيه الرقاب من نار جهنم، ولكنها كالمطر فانهماره لا يعني قطعية ارتواء الأرض ونمو الحشائش والأشجار على أثره، فقد تكون الأرض سبخة وبورا لا تنتج أو غير صالحة للإنبات ولكنها تحتاج إلى شيء من الاهتمام والرعاية، وهكذا القابليات عندنا هي المدار حول الاستفادة القصوى أم الضحلة أم المنعدمة من جوائز الشهر الكريم، فهناك من استعد وتهيأ للدخول في هذه الدورة الأخلاقية والتربوية التدريبية؛ ليكون شهر الله تعالى هو الصائغ والصانع لشخصيته في جميع جوانبها وعلاقاتها، بينما هناك من يفهم الشهر الكريم على أنه إمساك عن الأكل والشرب مع انطلاق جوارحه مؤتمرة بالنفس الأمارة بالسوء فتجرح الصيام بالآثام، فهذا كما ورد في الخبر بأنه كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش!!

الشهر الكريم فرصة لإعادة الحسابات على مستوى العلاقة مع الله تعالى ومع الناس وتصحيحها وفق ما يريده الباري، ففي وسط زحام الدنيا ومشاغلها قد يبتعد المرء عن محراب الطاعة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، مما يفقده مكتسب اليقظة الروحية واستشعار عظمة الله تعالى وحضوره ورقابته في كل أفعاله، فيأتي الشهر الكريم لوصل ما قطع وتجديد العلاقة الحقيقية مع الله تعالى القائمة على خشيته والورع عن محارمه، وذلك من خلال البرنامج العبادي المكثف في هذا الشهر لو أحسن المرء اغتنام وقته وتقسيمه بما يعود عليه بالثواب الكثير.

كما أنه على مستوى علاقته بالآخرين فهناك عنوان ومفهوم يتعلق بتحسين الأخلاق في هذا الشهر الكريم، بمعنى أن يقيم الإنسان علاقاته والنقاط الإيجابية والسلبية فيها؛ ليتمكن بعد ذلك من اكتشاف مواطن الخلل والتقصير ليعدلها، فمن علامات القبول وحسن استقبال الشهر الكريم أن يرى أثر ذلك في تصرفات الصائم مع الآخرين وتحسنها، من خلال ابتعاده عن نوبات الانفعال والصراخ في وجه أفراد أسرته ودخوله في حوارات ساخنة مع أصحابه أو نعتهم بألفاظ غير لائقة.

المسيرة الأخلاقية والسلوكية تتلقى دعما كبيرا من خلال رقابة المرء على نفسه لئلا تتناول أو تفعل شيئا من المفطرات، وهذه النواة لبذرة الإيمان والورع والتقدم في ساحة مواجهة تزيين الشيطان وتسويلات النفس والانغماس في الشهوات، ومما يعينه كثيرا في تثبيت قدم صدق في طريق الاستقامة هو الوعي الفكري، هو التأمل في آيات كتاب الله تعالى وتدبر مضامينها العالية، كما أن تخصيص بعض الوقت للنظر في الروايات الشريفة المعتبرة الواردة عن المعصومين تشرق في النفس أنوار السكينة والطمأنينة، من خلال قراءتها والتأمل في معانيها إذا وردت في محاضرة تبين الجوانب التي تتضمنها وتربط تلك المعاني مع واقعنا والعمل على تطبيقها.

وفيوضات الصيام كثيرة في صنع الشخصية القوية، ومن أهمها: الصبر والإرادة القوية في وجه التحديات والصعاب، فالإمساك عن المفطرات يعلم المرء تحمل المشاق والتكيف مع الظروف الصعبة، فالحياة الحالمة والمثالية الزائدة التي يتصور فيها أنها تحمل تحقق الغايات بنحو مستمر لا وجود لها وقد تضيع صاحب هذه الفكرة وتجعل من شخصيته شخصية مهزوزة وضعيفة بلا حراك في وجه عواصف الحياة العاتية، والحقيقة هي أن الإنسان هو من يكيف نفسه مع الصعاب والظروف وضغوط الحياة وهذا ما يرفدنا الصيام فيه بدرس مهم في التحمل.