آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

فلسفة العلاقة الحميمة في قصة «طول» القصيرة جداً للكاتب حسن علي البطران، مقاربة ميكروسردية

فاطمة الزغول صحيفة الزوراء العراقية

خلق الله عز وجل الكائنات الحية على هيئات مختلفة، وجعل بينها صفات مشتركة وأخرى مختلفة، وجعل لها حاجات ورغبات وغرائز لا بد من توفرها لكل كائن ليستطيع العيش على هذه الأرض وينمو ويتكاثر بشكل سليم.

والإنسان هو أهم الكائنات الحية وأرقاها، فهو المكرم بالعقل، وهو محور الكون الذي سخر الله تعالى له الكائنات الأخرى، وجعله مستخلفاً على الأرض ليعمرها ويملأها حركة ونمواً وتكاثراً وتجديداً.

وكلمة الإنسان من الأنس، فالنفس تأنس بمن يشاركها الحياة، ويعينها على مجابهة تحدياتها ومصاعبها، ولا يمكن للكائن البشري أن يعيش وحيداً منعزلاً عن أفراد جنسه، فهو يأنس بالعلاقات القائمة على التعاون والمحبة، سواء بين الجنس الواحد، أو الجنسين الذكر والأنثى، وقد شرع الله تعالى في القرآن الكريم مبادئ هذه العلاقات الإنسانية، ونظم لها قواعد وأسساً تقوم عليها لتكون سبيلاً لراحة الإنسان، واستمرارية وجوده في هذا الكون.

أما تلك العلاقة الحميمية التي تربط أفراد الجنس البشري بجنسهم الآخر، فهي أهم وأقدس هذه العلاقات، لأن الامتداد والتكاثر البشري يقوم عليها، فهي الأصل في سيسيولوجيا المجتمعان، وطبيعة نموها وتطورها، وهي التي يعتمد عليها التنظيم الاجتماعي السليم، فالإنسان يكون أكثر عطاء وبناء؛ إذا توفرت له المقومات النفسية والسيكولوجية السليمة التي تمده بالحاجات الجسدية والغرائزية، بما يشبع حاجاته، ويطلق عقله للتفكير والتجديد والعمل البناء، شريطة أن تقوم هذه العلاقة على الرغبة العميقة والحميمية بين الطرفين، حسب ما شرع الله في مقومات هذه العلاقة.

حسن علي البطرانوفي عالم الأدب يهتم العديد من الكتّاب بتجسيد هذه الحميمية في النصوص الأدبية، سواء منها الشعرية أو النثرية، ومن الفنون الأدبية الحديثة التي تجسد عمق العلاقات الإنسانية وحميميتها؛ القصة القصيرة جداً هذا الجنس الأدبي القائم على عناصر التكثيف، والحكائية، والمفارقة، والوحدة الموضوعية، وفعلية الجملة، ومن القصص القصيرة جداً التي تصور عمق الحميمية بين الجنسين هذه القصة القصيرة جداً بعنوان «طول» للكاتب السعودي حسن علي البطران، التي نُشرت في صحيفة الدستور الأردنية الصفحة الثقافية بتاريخ 20 آب / أغسطس 2021، تحت عنوان رئيس «لا تقطف الوردة من هناك»، ضم مجموعة قصص لهذا الكاتب الذي تعددت إصداراته في هذا المجال لتبلغ عشرة إصدارات تضم موضوعات متنوعة تعالج القضايا الآنية، اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، وفكرياً.

«طول»

يلملمان طولهما من الانحناء،

تطل عليهما من الشرفة عصفورةٌ.

يتضمن المستوى الاستهلالي في هذه القصة القصيرة جداً عتبة أحادية عميقة الدلالة، فكلمة «طول» التي عنون بها البطران قصته، هذا المصدر من الفعل الثلاثي طال، يحمل البعد الامتدادي سواء كان هذا الامتداد على المستوى الطولي، أو العرضي، وهذا يمثل بعداً دلالياً عميق المدى فيما تحمله القصة من مضمون، فالعنوان يختصر فحوى المضمون وأبعاده، فالعلاقات الحميمية هي مصدر الامتداد البشري الذي يولّد الأجيال المتلاحقة، ما يشير إلى براعة الكاتب في اختيار العنوان.

بدأ البطران قصته بالفعل يلملمان بدلالة الزمن الحاضر، فالحدث ألحقت به ألف الإثنين التي حلت محل الفاعل الثنائي الدال على التشاركية في العلاقة، واللملمة من الفعل لملم الرباعي المضّعف توحي بالتكرار والاندماج والتتابع الحركي في الحدث المتبادل، بما يوحي بالاندماج الجسدي والشعوري بين الفاعل الثنائي الذي يمثل الجنسين، ثم يعقبه بكلمة طولهما التي وقع عليها حدث اللملمة، والتي تشير إلى عمق هذه العلاقة وبعدها الحميمي، وما تتركه من أثر، فالطول كما أشرنا في المستوى الاستهلالي تعطي بعداً دلالياً يعكس أثر هذه الحميمية بين الجنسين في التماسك والامتداد بكل اتجاهاته وأبعاده، وهذا ما تشير إليه بقية العبارة «من الانحناء»، فهذه الحميمية والاندماج الجسدي والحسي يمنع الانحناء الذي يمثل الضعف وقلة التماسك والهرم، فالحميمة هنا تمنحنا القوة مقابل الضعف، والتماسك والعنفوان، مقابل الانحناء والهرم، وهذا تجسيد متقن لأبعاد هذه العلاقة وانعكاساتها بكلمات شديدة التكثيف، عميقة المدلول.

ختم البطران قصته بعبارة مكثفة تحمل مضموناً واسع الإيحاء والعمق المعنوي، ففي غمرة الاندماج في العلاقة الحميمة بين الجنسين المذكورين في القصة، «تطل عليهما من الشرفة عصفورةٌ»، ما يشير إلى نقل أثر هذه الحميمية إلى من يلاحظها ويشعر بها، فهي سيكولوجية متوارثة من الزوجين إلى أبنائهم، فالعصفورة التي ترمز إلى فتاة صغيرة تطل على هذه العلاقة، وتكتسب أبعادها وتتأثر بها، فما تطل عليه الآن من الشرفة، وهو المكان المشرف الذي يصور وضوح المشاهدة، ستعيشه لاحقاً مع جنسها الآخر، فالعبارات في هذه القصة القصيرة جداً واسعة الدلالة رغم شدة التكثيف، فالألفاظ منتقاة بعناية لتعكس المشهد بكل جوانبه وتأثيراته.

بنى البطران قصته القصيرة جداً على الجمل الفعلية الحركية الدالة على المشهدية المباشرة التي تنقل حدثاً آنياً مباشراً بكافة أبعاده، ليعالج موضوعاً واحداً، مستخدماً عناصر التشويق، والمفارقة بين سرّية العلاقة الحميمية التي تحدث في الخلوة بعيداً عن الأنظار، وبين وجود عصفورة على الشرفة، تشرف على هذه العلاقة، وتتأثر بها، كما تتضح الرمزية العميقة في دلالات الألفاظ وبعدها في إيصال المضمون بشكل متكامل معبر عن أهمية الحميمية، وقيمتها في العلاقات الإنسانية.

استطاع البطران في هذه القصة القصيرة جداً شديدة التكثيف، أن ينقل لنا مشهداً حياً لأنبل العلاقات الإنسانية التي تتمازج فيها الأرواح والأجساد والمشاعر النبيلة، لتشكيل نبض الحياة وامتدادها وديمومتها، موظفاً إمكانات اللغة والأبعاد الرمزية للألفاظ المنتقاة بعناية، ملتزماً عناصر التشكيل لهذا الفن الأدبي الذي يختزل اللغة ويستشف المعنى بفنية عالية واسعة الأبعاد، قائمة على الحكائية المكثفة، والإدهاش، وعمق المفارقة.