آخر تحديث: 2 / 5 / 2024م - 1:07 ص

في «منتدى الينابيع الهَجَريّة»

المبدعون من شعراء الجيل الرابع.. السيد علي باقر الحسن

ناجي بن داود الحرز

حكاية «منتدى الينابيع الهَجَريّة» بدأت مبكراً مع بلدة «التويثير» الوادعة المسترخية على أحد سفوح جبل «القارَة» في الأحساء أو جبل «التويثير» كما يحب أن يشاغب بعضُ أهلها جيرانَهم من أهل القرى الأربع المحيطة بالجبل.

ففي عام 1413 هـ التحق بشعراء المنتدى من «التويثير» المرحوم السيد علي بن طاهر الحاجي، وفي عام 1414 هـ سعدنا بانضمام كوكبة من شبابها الشعراء دفعة واحدة، وهم السيد علي محمد الحاجي رحمه الله، والسيد إبراهيم محمد الحاجي والسيد طالب عدنان الحاجي حفظهما الله، وكان لهذه الكوكبة خصوصية الارتباط الوثيق والتعلق الشديد بالمنتدى وبمؤسسه، فقد كان وقت لقاء المنتدى الأسبوعي لا يكفي ذلك الارتباط وذلك التعلق، فكانوا لا ينقطعون عن زيارتي أيام «مكتبة الجواهري» أحد مشاريعي المتعثرة أحيانا مرة في الأسبوع وأحيانا أكثر من مرة بإلحاح وتحريض من السيد علي الذي افتقدناه في ريعان شبابه إثر حادث مروري عام 1427 هـ.

وفي عام 1426 هـ سعدنا بانضمام السيد حسين بن علي الحسن الذي سرعان ما أصبح من «العشرة المبشرون بالشعر» ضمن أجمل عشر تجارب شعرية شبابية آنذاك حسب كتاب «شعراء قادمون من واحة الأحساء» الذي أصدرتُه عام 1429 هـ.

ولم ولن ينقطع الود بين المنتدى وبين أهل هذه البلدة الطيبة عبر علاقات وطيدة بأهم رجالاتها، وعبر إقامة بعض فعاليات المنتدى فيها، وعبر المشاركة في تأبين بعض رموزها الراحلين، حتى حظينا بسعادة وشرف انضمام فارس هذه الحلقة السيد علي بن السيد باقر الحسن الذي يمكننا اعتباره اختصاراً وافيا ورائعا لتجارب من سبقوه من شعراء «التويثير» المبدعين واختصارا وافيا أيضا لمودتهم وارتباطهم بالمنتدى، فكأنني به يغتصب نفسه اغتصابا حين مغادرة المنتدى بعد انقضاء وقت اللقاء الأسبوعي وكأنه يتمنى أن يمتد وقت ذلك اللقاء إلى ما لا نهاية.

السيد علي المولود عام 1420 هـ بدأ محاولاته الأولى لمعاقرة كؤوس البيان في سن الثالثة عشرة، ولم تكن بدايته مع الشعر بداية رتيبة، فقد بزغ بدراً مكتمل الألق ليحصل على المركز الأول في مسابقة «الشاعر الناشئ» من «نادي الأحساء الأدبي» عام 1438 هـ، والمركز الأول في مسابقة «المهارات الأدبية» فرع الشعر على مستوى تعليم المملكة للمرحلة الثانوية في نفس السنة.

عندما قرر السيد علي دخول المضمار شاعراً وعاشقا، اتجه مباشرة إلى سادن البلاغة وأمير البيان وسيد الفصحاء، يطلب منه الإذنَ ويا له من وقوف على باب عليٍّ :

إيه يا سادن البلاغة هَبني
نقطةَ الباء علني أستفيقُ

وقد وهبه سادن البلاغة نقطة الباء ليكون مستحقا لشرف الانحناء أمام سيد الخلق محمد ﷺ ليطفئ بعض ظمأه وليزهو الورد والنعناع بين حناياه:

لهديل روحكَ نغمةٌ وشعاعُ
وعلى مداها يُضبط الإيقاعُ

يا سيد الآيات خُذ بمسامعي
ضاقت بقلبي في الهوى الأضلاع

في هَدي وحيِك كوثرٌ متدفقٌ
يجري فيزهو الورد والنعناعُ!

وبعدما أروى شاعرنا ظمأه من كوثر جده ﷺ كانت البوصلة حينئذ عطش الحسين وكانت الجهة كربلاء:

عمّدتنا نخلاً وعشقك سوسنةْ
يامَن غزلتَ لنا شعاع الأنسنةْ

كالضوء تختزل المسافة عابرًا
نحو الخلود فلا تحدّك أزمنة

حقا هتفتَ: أما لنا من ناصرٍ؟
فإليك أسماع المجرّة مُذعِنة

للآن.. أصداء الهتاف تهزنا
شقّ الفؤادَ لهيبُه واستوطنه

يا من أحلتَ لنا الفناء خرافة
الموت شيد من خلودك مدفنة

لما انحيتَ على السيوف بكربلا
ونهضتَ بالإنسان عما أوهنه

ولا بد هنا من أن يستريح الشاعر في ملكوت أم الحسين وأم أبيها مولاتنا فاطمة عليها وعليهم الصلاة والسلام فهم فاطمة:

باسم «البتول» تعَمْلَقَت أغصاني
واخضرّ حقل العشق في وجداني

لم أستفق من سكرة العشق الذي
أرسى سفينتَه على شطآني!

«زهراء» يا رئة السلام تنفسّتكِ
.. حروف شعري.. فاقبلي قرباني

«عمّار» في الولع الشفيف معلمي
وإليك «سلمانٌ» حدا سلماني!

ملكوتك المُلقى عَلي رداءه..
ختمٌ سماويٌ على إيماني!

إي وربك يا علي فإن ميزانك في هواهم من أرجح الموازين، وهنيئا لك

ولكل عشاقهم هذا الحب الهاشمي الذي تقاسمته معهم فأطلق جانحيك في رحاب القدس والطهر بين يدي الإمام العسكري :

نضيدُ العشقِ مُحمرًّا جَنيّا
تقاسمناه حُبّا هاشميا..!

من الجسد الثقيل أرحت روحي
لأطلقَ في رحابكَ جانحيّا

ومن عشقٍ إلى عشق، ومن وجدٍ إلى وجد، ومن حكاية إلى حكاية يطوف بنا الشعراء لنرى بأم أعيننا ولنلمس مواقع السهام في أفئدتهم ومكامن الحنين في أكبادهم، حتى وإن كانوا «يقولون ما لا يفعلون» وحتى وإن كانوا يجارون ويبارون أكابر الشعراء العشاق في حلبة الغزل التي فيها تتجلى إمكانياتهم الإبداعية ومدى إمساكهم بزمام اللغة، كما فعل شاعرنا الجميل في هذه القصيدة التي سنحلق في بعض أبياتها معه حتى غاية النشوة:

رمانتان.. وجيدٌ.. وارتعاشاتُ
ولهفةٌ.. لم تعرقلها المسافات

ورقّةٌ تتهادى كالنسيم على
أغضان قلبي فتغريه الغوايات

وليلة من ليالي الوصل ساخنة
بها تغنّت مع العود الكمنجات

وشاعر باحث في الروح عن شغف
للانهاية.. فالدنيا اكتشافات

ما عدتُ أحتمل التحليقَ توريةً
لن تنصف الصب يا صاح المواراةُ

والاستعارات.. لا أهلاً بطلّتها
ما أغنت الخافق المضنى استعارات

لا بُد مِن رميةٍ للنّرْدِ صائبة
مهما تمادت عَليّ الاحتمالات

وبمثل هذه الموهبة الثرية وبمثل هذا الإصرار على التألق يستمر أحفاد طرفة بن العبد وسفيان بن مصعب العبدي والشيخ علي بن المقرب في إدهاش الأذواق والقلوب ويبقون متربعين على عرش البيان ما بقي الدهر.