آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

نملة تحذر ‎

قال تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل: 18].

ما أجمل هذه الصورة التخيلية التي تأخذنا نحو أحد المضامين العالية في الآية الكريمة، حيث تلك النملة تستشعر وجود الخطر وإمكانية مداهمته لهم وما يجره عليهم من الدمار والهلاك والخراب، وهذه النملة لما أحست بقرب الخطر المتمثل بجيش نبي الله سليمان الضخم كانت الناصحة الخائفة على بقية النمل، وهذا ما يحتم علينا أخذ درس مهم منها وهي المهمة الاجتماعية والتخلص من الأنانية والمشاركة الوجدانية والعمل على إنقاذ الغير من مصادر الخطر على تنوعها ما أمكنه ذلك، ويا له من حسن منطق حينما تحذر بأبلغ المعاني وبكلمات مختصرة من تشاركهم البيئة والعمل والمصير، ولها لسان بين يشير إلى تقديرات الخطر الفادح الذي يمكن أن يداهم النمل إن لم يستمعوا لنصحها وتنبيهها المبكر مما قد يحيق بهم من سوء، وعبرت عن ذلك الخطر بسليمان وجنوده وهو تعريف كاف وواضح بحيث أن العقول تدرك من هو هذا النبي العظيم وما يمتلكه من قدرة هائلة لا طاقة لأصحاب العصبة والإمكانيات الهائلة أن يقفوا بوجههم فضلا عن حشرات ضعيفة لا تقوى على تحمل أي ألم من أضعف المخلوقات، وهذه النملة الذكية لم تدعهم يتيهون في الحوارات الباحثة عن الخيارات والاحتمالات الممكنة عند مداهمة أزمة خطيرة، فهذه الأزمة ليس لها من خيار إلا بتجنب الوقوف في طريقهم، إذ المصير - إن بقوا في أمكانهم ولما يتجهوا سريعا نحو الاختباء في الجحور الآمنة - فإن القوة المفرطة لسليمان وجنوده لن يكون الهلاك بل هو التحطيم والسحق واختفاء لوجودهم تماما، وأنصفت هذه النملة عندما نفت صفة الظلم والعدوان عن نبي الله فحاشاه أن يسبب الضرر حتى للحشرات فضلا عن البشر، وإن وقع التحطيم للنمل فسيكون بسبب جهلهم بخطر البقاء في طريق هذا الجيش، ولضآلة حجمهم سينتهي وجودهم حيث لن يشعر ذلك الجيش الضخم بأنه وطأ النمل، بل سيكملون مسيرهم دون أن ينتبهوا لشيء والملامة حينئذ على النمل الذي لم يتجنب مصدر الخطر.

الوقفة الأولى مع أهمية النصيحة وماهية ومعالم الشخص الناصح من خلال موقف تلك النملة، فالشخص الناصح يتصف بحكمة ورجاحة في عقله، ويؤازرها حالة الحدس واستشراف المستقبل الغامض، من خلال تلك المعطيات والمقدمات التي بين يديه والتي يستكمل نهاية الطريق والنتائج ببصيرته ورؤياه الناضجة، ولديه حصيلة معرفية تؤهله لطرح الفكرة الرشيدة، ويمتلك الأسلوب اللطيف والعقلي المبين للعواقب؛ لتكون قناعة الطرف الآخر بما يطرح، وينقل سهلة، ولا يشوبها الشك والتردد، كما أنه في المقابل قبول النصيحة يحتاج إلى عقول واعية تبعد عنها شبح الاستهتار وتجاهل آراء الآخرين عبثا، فكم من إنسان قد ضيع عمره بالمكابرة على استماع نصح الناصحين، معتقدا أنه قد بلغ مرتبة النضج العقلي بأعلى مستوياتها، ولا يمكنه أن يقبل كلمة من غيره، بينما كان تغيير مساره وانتشاله من مستنقع النقائص والأخطاء ما كان يحتاج إلا وقفة تأمل وتفكر!

وكلمة «لا يحطمنكم» جديرة بالتأمل وأخذ العبرة منها، فهذه النملة الحكيمة تتحدث عن حدث مستقبلي لما يقع على أرض الواقع، ولكنها تضع تصورا لإقدامهم على خطوة غير محسوبة الخسائر والمخاطر ألا وهي الخروج من جحورهم والتعرض للدهس من جيش نبي الله سليمان ، ومع أن بقاءهم في البيوت فيه خسارة عمل حثيث في جمع القوت مما تجده على الأرض من بذور الثمار وغيرها، ولكنها تضع خطة حكيمة لا ينبغي أن تغيب عن العقول الواعية، وهي الموازنة في الخطوات والاحتمالات بين الآثار الإيجابية والسلبية لكل احتمال ومسار، وقد يصل الفرد إلى قناعة بخطوة لا يستسيغها، ويصعب عليه تقبلها، ولكنه يكيف نفسه، ويوطنها على تقبلها لأنها أفضل النتائج وأقلها في الخسائر والمخاطر قياسا لغيرها.

«وهم لا يشعرون» أي لا يمكن جيش نبي الله سليمان أن يتعمد العدوان على أحد، وإذا وقع شيء من التعدي على أحد فهو يقينا عن خطأ وعدم التفات لذلك، وكم تمتلك هذه النملة من الحكمة والإنصاف في إعطاء الآخرين حقوقهم بعيدا عن الشخصنة والعاطفة العمياء كما هي عند بعض الناس، فهلا تعلمنا منها الموضوعية والإنصاف في وصف الآخرين عند الحديث عندهم دون تدخل العواطف.