آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 11:51 ص

”يوم تبلى السرائر“.. وقفة لغوية

الدكتور أحمد فتح الله *

يذهب الكثير من الناس إلى أن السريرة: هي، كما يعرفها ”المعجم ا لمعاصر“ «أحمد مختار عمر»، ما أُسِرَّ في القلوب من النيات والعقائد وغيرها، وما أخفى من الأعمال، وجمعها سرائر، ولكنّها في الواقع مرتبطة بمفهوم السِّر والإسرار وهما من الأضداد، كما سيتضح بعد قليل.

السرائر في المعاجم اللغوية

السَّريرة: كالسِّرِّ وهو: الذي يُكْتَمُ، والجمع الأسرار. والسَريرة مثله، والجمع السَرائر «الصِّحاح للجوهري». والسريرة: عمل السِّرِّ من خَيرٍ أو شَرٍّ «معجم العين للخليل الفراهيدي، والمحيط في اللغة للصاحب بن عباد». ويقال:  سَريرته خيرٌ من عَلانيته.

والسريرة من الفعل:  أسرَرْت: وأسرَرْتُ الشيءَ: كَتَمْتُه، وأخفيته، وأيضا أظهرته وأعلنته، ويستشهد المعجميون بقول الشاعر:

فلما رأى الحَجّاجَ جَرَّدَ.... أسَرَّ الحَرُورِيّ الذي كان أَضْمَرا

ومن الاظِهار أيضًا في قوله تعالى: ﴿وأسَرُّوا النَّدامةَ لمّا رَأَوا العذابَ[يونس 54]

والسَّريرةُ كالسِّرِّ وأسرَّ الشيءَ كَتَمَه وأظْهَرَه وفي التنزيل ﴿وأسروا الندامة أي أظْهرُوها «المحكم الأعظم لابن سيده». وفي تهذيب اللغة للأزهري: وما قال غير أبي عُبيدة في قوله: ﴿وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ أي: أظهرُوها، ولم أسمع ذلك لغيره. وأخبرني المنذريُّ عن أبي طالب عن أبيه عن الفرَّاء في قوله: ﴿وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يعني الرؤساءَ من المشركين أسرُّوا النَّدامة من سَفِلَتهم الذين أضَلوهم،  وأسرُّوها، أي: أخفوها وعليه قولُ المفسّرين.

ويقول ابن منظور في ”لسان العرب“: والسريرةُ: عَمَلُ السِّرِّ مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ. وأَسَرَّ الشَّيْءَ: كَتَمَهُ وأَظهره، وَهُوَ مِنَ الأَضداد،  سرَرْتُه: كتمته، وسررته: أَعْلَنْته، وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا يُفَسَّرَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ؛ قِيلَ: أَظهروها، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ أَسروها مِنْ رُؤَسَائِهِمْ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والأَوّل أَصح. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: ”لَوْ يُسِرُّون مَقْتَلِي“؛ قَالَ: وَكَانَ الأَصمعي يَرْوِيهِ: لَوْ يُشِرُّون، بِالشِّينِ مُعْجَمَةٌ، أَي يُظهرون.

وفي ”تاج العروس“ لمرتضى الزبيدي: السِّرُّ،  بالكسر: ما يُكْتَمُ في النَّفْسِ من الحَدِيث، قال شيخُنَا: وما يَظْهَرُ؛ لأَنه من الأَضداد. قلت: يُقال:  سَرَرْتُه: كَتَمْتُه، وسَرَرْتُه: أَعْلَنْتُه... كالسَّرِيرَةِ. والسَّرِيرَةُ: عَمَلُ السِّرِّ من خَيْرٍ أَو شَرٍّ. جمع:  أَسْرَارٌ، وسَرَائِرُ، وفيه اللَّفّ والنَّشْرُ المُرَتَّب.

وأَسَرَّ إِليه حَدِيثًا أَي أَفْضَى؛  وأَسررْتُ إِليه المودَّةَ وبالمودّةِ وسارَّهُ في أُذُنه مُسارَّةً وسِراراً وتَسارُّوا أَي تَناجَوْا «لسان العرب».

السرائر في كتب تفسير القرآن

تفسير جامع البيان «الطبري»

فسر الطبري «يوم تبلى السرائر» أي يوم الاختبار حيث سيظهر في ذلك اليوم كل ما كان مختفيا في الدنيا عن أعين الجميع، والفرائض كان الله تعالى قد كلف بها ولم تنفذ، وقد قيل عن ذلك قول عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى ﴿يوم تبلى السرائر: ذلك الصوم والصلاة وغسل الجنابة، وهو السرائر، ولو شاء أن يقول: قد صمت، وليس بصائم، وقد صليت، ولم يصل، وقد اغتسلت، ولم يغتسل.

تفسير مجمع البيان «الطبرسي»

السرائر: أعمال بني آدم، والفرائض التي أوجبت عليه، وهي سرائر بين الله والعبد. روي ذلك مرفوعا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: «ضمن الله لخلقه أربع خصال: الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، والغسل من الجنابة، وهي السرائر التي قال الله يوم تبلى السرائر.

وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله ﷺ: وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة؟ فقال: «سرائركم هي أعمالكم من الصلاة، والصيام، والزكاة، والوضوء، والغسل من الجنابة، وكل مفروض، لأن الأعمال كلها سرائر خفية، فإن شاء قال الرجل: صليت، ولم يصل، وإن شاء قال: توضأت ولم يتوضأ، فذلك قوله «يوم تبلى السرائر» وقيل: يظهر الله أعمال كل أحد لأهل القيامة، حتى يعلموا على أي شئ أثابه، ويكون فيه زيادة سرور له، وإن يكن من أهل العقوبة، يظهر عمله ليعلموا على أي شئ عاقبه، ويكون ذلك زيادة غم له. والسرائر: ما أسره من خير أو شر، وما أضمره من إيمان أو كفر. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: يبدي الله يوم القيامة كل سر، ويكون زينا في الوجوه، وشينا في الوجوه.

”تبلى“

في الفقرات السابقة تتطرقنا إلى شرح مفردة ”سرائر“ «جمع سريرة»، وفي الأسطر التالية نستعرض سريعًا تناول المعجميين والمفسرين لمعنى «تبلى» ورؤية بعض المحققين القرآنيين المعاصرين للمراد من هذه المفردة ومادتها «بلى - ابتلاء» في القرآن الكريم.

في معاجم اللغة

المصباح المنير «الفيومي»

بلاه الله بخير أو شرّ يبلوه بلواء وأبلاه وابتلاه ابتلاء: امتحنه، والاسم بَلاء مثل سَلام، والبلوى والبليّة: مثله، ولا أباليه ولا أبالي به: لا أهتم به ولا أكترث له.

مقاييس اللغة «ابن فارس»

بلو: الأصل فيه نوع من الاختبار ويحمل عليه الإخبار أيضاً. بُلِيَ الانسان وابتلي: من الامتحان وهو الاختبار، ويكون البّلاء في الخير والشرٌء والله يبلي العبدَ بلاءً حسناً وبلاءً سيّئاً. وهو يرجع إلى هذا، لأنّ بذلك يُختبّر في صبره وشكره: ومما يحمل على هذا الباب قولهم: أبليث فلاتاً عذرًا، أي أعلمته وبينته فيما بيني وبينه فلا لوم علىَّ بعد. ويبليك: يخيرك.

الصحاح «الجوهري»

بلوته بلوًا: جربته واختبرته، والتبالي: الاختبار

لسان العرب «ابن منظور»

بَلَوْتُ الرّجلّ بلوا وبَلاءً وابتليته: اختبرته، وبّلاه يَبلوه يَلواً: جرّبه واختّبره. وقد ابتليته فأبلاني: استخبرته فأخبرني. وابتلاه الله: امتحنه. والاسم البلوى والبِلوة والبلاء.

في كتب التفسير

تفسير ابن كثير

«يوم تبلى السرائر» أي: في يوم القيامة تظهر السرائر وتبدو، ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا.

تفسير جامع البيان «الطبري»

فسر الطبري «يوم تبلى السرائر» أي يوم الاختبار حيث سيظهر في ذلك اليوم «كل ما كان مختفيا في الدنيا عن أعين الجميع، والفرائض [التي] كان الله تعالى قد كلف بها ولم تنفذ.

تفسير مجمع البيان «الطبرسي»

يوم تبلى السرائر: تبلى أي تختبر تلك السرائر «أعمال بني آدم، والفرائض التي أوجبت عليه، وهي سرائر بين الله والعبد» يوم القيامة، حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها. وقيل: يظهر الله أعمال كل أحد لأهل القيامة، حتى يعلموا على أي شئ أثابه، ويكون فيه زيادة سرور له، وإن يكن من أهل العقوبة، يظهر عمله ليعلموا على أي شئ عاقبه، ويكون ذلك زيادة غمّ له.

عند المحققين

أولاً: محمد حسن الجبل «المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، ط1:1410 ه»

يرى الشيخ الجبل أن المعنى المحوري لمادة «بلو - بلى» هو: شدة تحُوز الشيء - أو حَوْز الشيء بشدة - لمدى طويل: «ويلزمه بيان حال الشيء الذي حِيزَ في شدة»: ومنه: مع بيان الحال ”ابتلاه الله: اختبره «كأنما اختبر صبره وتحمُّلَه الاحتباسَ والبقاءَ على وضع شديد» ويقال أيضًا: بَلَوْته: امتحنته“. ومن هذا ”البلاء: الاختبار والمحنة والغم“. وقد جاء التعريض لشدة مع لازمها، وهو تبيُّن الحال، صريحًا في آيات كثيرة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[محمد: 31]. ومع اعتداد النعم هي أيضًا شدائد أي مجال اختبار من حيث إنها تستوجب شكرًا وحسن استعمال يؤدَّيان أو لا يؤَدَّيان، يتبين أن الفعل «بَلا يبلو» جاء في القرآن الكريم للشدة ولازمها الاختبار معا، أو للشدة فقط أو للاختبار ولازمه العلم.

فللشدة فقط، «عقوبة»: ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ[الأعراف: 163].

وللعلم فقط: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ[يونس: 30]، ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ[الطارق: 9].

وسائر ما في التركيب من الفعل «بلا يبلو» أو الاسم «بلاء» أو اسم الفاعل «مبتلى» فهو بمعنى الشدة مع الاختبار «تبيُّن الحال» ويُحتاج في بعضها إلى بعض التأمل.

هذا وقد فسر [الطبري 2/ 48] قوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ[البقرة: 49] بالنعمة. وقد ذُكِرَتْ بعدَ نِعَم كثيرة عدَّدَها الله عز وجل على بني إسرائيل. ثم رد [الطبري] استعمالات الجذر كلَّها إلى الاختبار مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ[البقرة: 168]، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً[الأنبياء: 35]. وكذلك في ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ[البقرة: 124] قال: أي اختبره، كما في قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى[النساء: 6] [الطبري 3/ 7].

وأرى أن المعنى المحوري الذي حددناه أدق، لأن من الاستعمالات ما ليس اختبارًا، كما هو واضح في: الناقة البلية، وبِلْوِ السفر، وبِلْو المال. وإنما المعنى وقوع في حيزِ شدةٍ أو في حيزٍ مع شدة. وهي في آية [البقرة: 124] التكليف، فالتكليف فيه مشقة أداء العمل المكلَّف به، والمسئولية عن الأداء، وإحسان الأداء أمام العزيز سبحانه. ثم يترتب على تنفيذ التكليف بيان الحال. وقد سبق الراغب بكثير من هذا. انتهى.

ثانيًا: حسن المصطفوي «التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ط 1:1416 ه»

يقول الشيخ المصطفوي: أن الأصل الواحد فيها هو إيجاد التحوّل، أي التقليب والتحويل لتحصيل نتيجة منظورة، وهذا المعنى ينطبق على جميع مواردها ومصاديقها. من دون أ يتجوز أو يتكلف فيها. وأمّا الامتحان والاختبار والابتلاء والتجربة والتبيين والإعلام والتعريف: فكلّ هذه معانٍ مجازيّة ومن لوازم الأصل وآثاره بحسب الموارد، إلا أن يُلاحظ فيها قيود الأصل، من التحويل وتحصيل النتيجة. وبهذا يندفع التأويل والتكلّف في تفسير مشتقّات هذه المادّة.

يوم تبلى السرائر: تتقلب وتتحوّل وتظهر خصوصيّاتها وما فيها. وقد تتبع الشيخ آيات المفردة بهذا المعنى المحوري في تحقيقه.

وفي الختام، يظل السؤال قائمًا؛ ماذا بعد هذه الوقفة اللغوية؟، بعبارة أخرى ما هي المقاربة غير اللغوية التي تتناول مفهوم السريرة «والسرائر» وعلاقتها بسلوك الإنسان قبل الموت وخاتمته ومآله بعد ”يوم تبلى فيه السرائر“؟ الإجابة، أو الأحرى محاولة الإجابة، عن هذا السؤال تحتاج وقفة أخرى في مقال آخر، ولكن حتى ذلك الحين أرى من المفيد قراءة مقال الصديق العزيز الدكتور محمد المسعود ”سريرتك هي كينونتك..!“ [الرابط هنا].

تاروت - القطيف