آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

أيها المغرور مهلا

ورد عن أمير المؤمنين : «مسكين ابنُ آدم، مكتومُ الأجل، مكنونُ العِلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقّة، وتُنتِنُه العَرْقَة، وتقتله الشَرْقَة» «شرح نهج البلاغة لابن الحديد ج 20 ص 62».

ما هو مقصود أمير المؤمنين بالمسكنة التي نسبها ووصف بها حال البشر؟

بنو آدم وصف الباري عز وجل بديع خلقتهم ونعمة العقل عندهم بالكرامة ولباس العزة الذي أسبغه عليهم، والقدرات والإمكانيات التي يحركها العقل الواعي هو مصدر الاقتدار وغنى النفس والعمل المثابر الذي يوفر له الحياة المستقرة والكريمة، فماذا يعني وصف المسكنة الذي ينسبه الإمام له؟

المسكين هو ذلك الشخص الذي يفتقر لأوليات الاحتياجات الضرورية ومستلزماته التي لا يستغني عنها من مأكل وملبس ومسكن، وبالتالي فإنه لا يستطيع أن ينال شيئا من زينة الدنيا ومظاهرها ولذائذها، ولكن المسكنة التي يشير لها لا تتعلق بهذه الجهة، وإنما هو الإشارة إلى أصل الافتقار الموجود عند الإنسان في كل شيء إلى القدرة والتدبير الإلهي، فالإنسان لا يملك في الحقيقة شيئا إلا على سبيل الأمانة وإنما نفسه الأمارة بالسوء تموه له الأمر وتظهره بشكل آخر، فمتى ما امتلك شيئا من الإبداع الفكري أو المهاري أو شيئا من الجاه والمال، تملكه ذلك الشعور بالعظمة والتميز على الآخرين فلا يوجد له مثيل ولا نظير في امتيازاته كما يتوهم، ومثل هذا الإنسان المغرور هو من يخاطبه أمير المؤمنين لا كل الناس، فهناك من يعرف قدره وإمكانياته دون أن يضعها في إطار التضخيم والتعظيم، وأما بالنسبة للقدرة الإلهية فهو يعترف بالافتقار إليه سبحانه في كل شيء من أموره فلا يستغني عن الغني المطلق في رزقه وحياته وصحته وجميع أحواله، فهذه المعرفة هي أساس الشكر للمنعم على ألطافه وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، وأما من اغتر بنفسه وحسب كل نعمة ينعم بها هي وليدة تفكيره وتخطيطه لوحده فهو المسكين حقا!!

وتقديم صور الضعف الإنساني لا لبث اليأس ووأد الطموح عنده أو زعزعة الثقة بنفسه، وإنما هو علاج لمرض خطير وآفة كبيرة يصاب بها الإنسان وهي الغرور والتكبر، فإذا اكتملت عنده المعرفة بنفسه وضعفها وحاجتها الافتقارية في جميع أحوالها للقوي القدير، تجنب ملامح وبوادر هذا المرض وعاش مرتاحا وعارفا بنفسه وبطاقاته، وعلاج أمير المؤمنين هو تذكير بمجموعة من الحقائق الغائبة والمغفول عنها في زحام الانشغال بملذات الدنيا والتعلق بمظاهرها ومتاعها.

الأمر الأول المساعد على تجنب مرض الغرور هو تذكر محدودية عمر الإنسان وخفاء لحظة الأجل والرحيل من هذه الدنيا، فكيف يدعي القوة والاقتدار هذا المغرور وهو لا يعلم لحظة فراقه للدنيا «مكتوم الأجل» والذي قد يحين في أي لحظة دون سابق إنذار أو ظهور بوادر له، فالتفاوت في الأعمار حقيقة لا يعلمها إلا الله تعالى وتغيب عنا حكمته في ذلك، ولكن كلنا يقين بأن الله تعالى يفعل أفضل شيء لعبده إن قصر عمره أو طال، كما أن خفاء الأجل من موجبات قهر النفس وكسر جبروت ذلك المغرور، والذي تعلقه وافتتانه بزينة الدنيا يولد عنده شعورا بالخلود وامتداد العمر ولا يتوقع أن تحين ساعة فراقه للدنيا في لحظة غير متوقعة وما دارت في خلده أبدا!!

صورة أخرى من صور الضعف الإنساني في صورته المادية وهو ما يتعلق بالأمراض والآفات المصيبة لبدنه، فتفقده القوة وتلحق به الآلام والتأوهات، والسبب الأكبر لها تلك المخلوقات غير المرئية من الفيروسات وغيرها، فهل يعي هذا المغرور من جهله ويدرك مدى ضعفه، فيتخلى عن عنجهية التكبر ويتخلى بالخلق السمح والحسن؟!

ومما يجنبنا الغرور بمتاع الدنيا الزائل تذكر حقيقة أنها فانية وما هي إلا ممر للدار الباقية، يعيش فيها الإنسان ردحا من الزمن ثم يرحل لدار الحساب ليجازى على ما قدمت يداه، فلا يفلح إلا من حاسب نفسه وراقب عمله وتجنب الموبقات.

ومن مظاهر الضعف الإنساني هو إفرازات بدنه العرقية عندما يتعرض لحرارة الشمس فلا يطيق شمها، ويبحث عن المعطرات ومزيلات العرق ليتخلص من تلك الرائحة الكريهة.

وأما رحيله من الدنيا فتتعدد الأسباب له ومن مضيعات الوقت البحث عن السبب الذي سيكون منهيا لحياته، فحتى أبسط الأسباب التي لا تخطر على البال يلقى منها حتفه، ومن اغتر بصحته وبعده عن مصادر الخطر والضرر ولهذا فهو ممن سيطول عمره، فهو يعيش في غمرة السهو إذ أن حتى الأمر المتكرر والاعتيادي كالشرقة في مجرى النفس قد تكون هي آخر لحظات حياته!!