آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

رسائل من تحت الماء «3-5»

عبد العظيم شلي

ينادينا البحر من جهتين، وبين زمنين، ماض تولى، وحاضر بعيد عن العيون، ففي صالة متحف البحرين بقسميه الأركيولوجي والأنثربولوجي، يتوزع التاريخ على حقب سحيقة، وأخرى لحيوات ماضية، والأخيرة توقفت عندها كثيرا بحوارات مع ابنتي مفصلا وشارحا لها المصطلحات والمفاهيم التي كانت سائدة في الماضي، وهي تتطابق إلى حد كبير مع بيئة مجتمعنا، وتكاد تكون تراث واحد مشترك. زوايا للمورثات من مجسمات ومخططات وصور تشير للنواحي العمرانية وطرق هندسة البناء، وللعادات والتقاليد نصيب وافر من العرض الدائم، مهن لباعة وبحارة ومزارعين وحرفيين، وألعاب شعبية، مجسدة عبر شخوص صنعت من حجر يرفلون بالأزياء التقليدية، كل منهمك في أداء عمله، وكذا طقوس الأعراس والمناسبات المتعددة.

مشاهد محسوسة أعادتنا للماضي الجميل العذب في بعض صوره، والمر في مشقاته، وأخذني الحنين لصورتين قديمتين تلامسان إحدى حلقات السلسلة التي ما زلت أكتب عنها وهي بعنوان ”أمي من فريق الأطرش“ تمثل الصورة الأولى، امرأتان تمشيان بجوار بعض، تحملان مجموعة جرار فخارية ”بغال“ لنقل الماء، موزعات على أكتافهن وظهورهن وعند الجباه، تسيران على طين البحر بأقدام حافية، في حالة جزر، وهن تنوءان بالحمل الثقيل.

أما الصورة الثانية لامرأة تعبر البحر، وهو في حالة مد، تحمل ”الجود“ وهو قربة كبيرة مصنوعة من جلد الماعز لنقل ماء الشرب، يفرغ ويصب من خلال فتحة صغيرة، بوزن 20 لترا يزيد أو ينقص قليلا.

صورتان اقشعر جسمي لنساء كادحات موثقات تصويرا فوتوغرافيا، تشيران لمهنة السقاية أيام زمان، تنبئان عن كمية الشقاء في سبيل لقمة العيش، رسالة مائية قديمة تقولان بأن لافرق في العمل بين رجل وامرأة، كل يسعى لقوت يومه.

بينما كنا سنغادر المتحف، وعند البوابة الداخلية نتفاجأ بمعرض فوتوغرافي يعرض داخل القاعة المغلقة المتعددة العروض.

ولجنا المكان، ظلام دامس إلا من صور تشع بضياء ألوانها شاشات تفاعلية متعددة المقاسات، نسمع أصوات هادرة، وكأن كل شيء من حولنا يتحرك، انعكاسات الألوان تخطف البصر من دقة الصور ووضوحها لكائنات مائية ذات أحجام وأشكال تسبح في انسيابية، خلنا أنفسنا في عمق البحر نتنفس تحت الماء بين الشعاب المرجانية الآسرة والأصداف والقواقع الفاتنة، والأسماك العجيبة، عالم ساحر يخلب الحواس.

حياة غير مرئية قام بها المصور الفوتوغرافي والمؤلف «حسين آغا خان» تحت عنوان «بحار فترة شبابي» عرض مصور قدم في متحف التاريخ الطبيعي لندن سنة 2022 م وتم نقل المعرض لقاعة متحف البحرين لهذا العام بعرض مشترك مع المصورة والمخرجة صاحبة الأفلام الوثائقية لعالم البحار والحائزة على جوائز 2014 خلال بعثة خاصة حول الدلافين السيدة «سيمون بيكولي»، شخصيتان مبدعتان جمعتهما صداقة في رحلات استكشافية في قاع البحر الأحمر وبحر المكسيك، وحمل معرضهما عنوانا ”البحر الحي“.

الزائر للقاعة يستقبله تعريف مكتوب باللغتين الإنجليزية والعربية اختار جزء منه بتصرف:

”يقدم المعرض وجهة نظر الصديقين حسين آغا وسيمون بيكولي حول التنوع الاستثنائي لعوالم البحار والمحيطات، شغفهما للحياة البحرية، مهد لهما الطريق للانطلاق في رحلة مبهرة لاستكشاف العجائب المخفية في أعماق البحار، وضعا نصب اعينهما لما هو ابعد من مصر، فارتحلا نحو جزيرتي تونغاو وريفيلا جيجيدو اللتان تقعان بعيدا عن سواحل المكسيك، ومن خلال مطبوعات كبيرة وعالية الجودة لصور حسين آغا خان ومقاطع مصورة لسيمون بيكولي، يعطي المعرض الجمهور في مملكة البحرين الفرصة لاستكشاف روائع العوالم تحت سطح البحر والتنوع البيولوجي الفريد في المكسيك ومصر“.

صور المعرض ليست صورا عادية إنما التقاطات بارعة لأنواع غريبة من الكائنات البحرية بتعريفات من وحي المشاهدة عن كثب، وعبر تسجيل للمؤثرات الصوتية الطبيعية والصورة المتحركة والتعليق الشارح للرحلة البحرية، تتفاعل الحواس، وتكمن الدهشة بين المرئي والمسموع.

لفتني تعريف عن الأسماك الزجاجية العجيبة «دائما ما ترى الأسماك الزجاجية بأعداد كبيرة، إنها جميلة جدا ومتناسقة إلى حد بعيد، ومن الممتع جدا مراقبتها، تختار مواطن جميلة، وأحيانا غامضة، مناطق مليئة بالمرجان في الشعاب أو أحيانا داخل حطام السفن، في كل مرة أراها حول المرجان يكون قسماً كبيراً منها في الظلال.

في آخر يوم من رحلتنا لعام 2020 صادفنا عددا هائلا من الأسماك الزجاجية - في الصورة هنا - حول وفوق رأس مرجاني رائع أسفل القارب بالضبط - الأسماك الزجاجية "ما بين الظهور والاختفاء - في مرسى مبارك، مصر ديسمبر 2020».

كلما خطونا شاهدنا كائنات بحرية متغيرة ذات حسن وجمال، تعريفات تكمل الرؤية، وتضع الزائر في عمق المشهد.

تموجات وتكوينات لقيعان البحار عبر صور فوتوغرافية مضيئة مطبوعة على شفافيات، هي الغالبة على المعرض مع شاشة متوسطة الحجم تعرض الرحلة سينمائيا بطريقة احترافية جاذبة مع تعليق علمي مبسط.

شخصيتا رجل وامرأة ضمهما شغف واحد ورؤية واحدة، يقف الزائر لمعرضيهما مبهورا بهذه الأرواح المتفانية التي تغامر بأنفسها في لجج البحر متناسية المخاطر، لا لشيء، إلا من أجل الاكتشاف والتدوين العلمي ورصد معالم الجمال في أمكنة بعيدة عن العيون، منطلقون نحو مشروع عابر للقارات تديره الجمعية السويسرية التي أسسها الأمير حسين آغا خان التي تهتم بالحياة المائية، وتعني بعدد من الأنواع والنظم البيئية، وهي مدعومة من بعض المؤسسات الأهلية.

إن كان هذان الفنانان قدما إسهاما فنيا وعلميا وأيضا حرص على لفت الانتباه للمحافظة على الثروة البحرية وما تكتنزه من خيرات، فهما ليسا وحدهما في الميدان، سبقهم الكثير من العلماء والمصورين والفنانين والمكتشفين على مدى ثلاثة قرون، وهناك علم يسمى بعلم البحار.

إن عالم ما تحت الماء ينادي الفنان التشكيلي نحو التأمل عميقا نحو تشكيلات الشعب المرجانية وتكويناتها الآسرة، وجمالية هارمونية اللون حيث التناغم بين الأشكال والكائنات البحرية، كم من الفنانين الذين فتنوا بقاع البحر، وعرفوا بفناني البحر، غاصوا عميقا، واستخرجوا عوالم تفيض جمالا وسحرا، فنانون نذروا أنفسهم بالتعبير عن الجنائن المائية، من ضمنهم، الفنان ”روجر سوينستون“ الأسترالي الذي يقول عن علاقته بأعماق البحر: ”على مدار الثلاثين عاما الماضية، أمضيت ساعات لا حصر لها تحت الماء، ادرس وأقوم بتصوير ورسم الشعاب المرجانية في جميع أنحاء العالم، تهدف لوحاتي البانورامية إلى جلب هذه العلاقة الحميمية مع البيئة تحت الماء إلى الجمهور الذي ربما لايستطيع الوصول إليها بطريقة أخرى“. فنان مبهر رسم أدق التفاصيل للشعب المرجانية كذا الحيوانات المتحركة، ويؤكد: ”إن اللوحة ليست لقطة سريعة للحظة معينة، بل هي تصوير لما يحدث لعالم متغير تحت الماء“.

وفنان آخر جامايكي من أصول إنجليزية يُدعى ”جاي هارفي“ الذي يعد أشهر فناني الحياة البرية والبحرية في العالم فأعماله تحظى بشهرة دولية، ”يتمثل أسلوب هارفي الفني في الغالب في تصوير الأسماك البحرية في المياه الدافئة على نحو واقعي، في أوضاع ديناميكية في بيئاتها الطبيعية“ أسس معهدا ومؤسسة باسمه للمحافظة على الموارد السمكية في العالم.

ولم يكن الأمر حكرا على الفنانين الرجال فهاهي الفنانة ”إلسي بوستمان“ التي سبقت الكثير من الفنانين في اكتشاف أعماق البحر فنيا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فقد نذرت جل حياتها في رسم مخلوقات لم ترها من قبل فوجدت في قاع المحيطات ما هو مذهل ومدهش، رسمت مخلوقات غريبة وعجيبة من عين مشاهداتها عبر رحلاتها في أعماق البحر ضمن رحلات استكشافية، وبعد جولاتها تعرضت لحادث اقعدها 11 عاما أشبه بالميتة، وحين استقرت أحوالها الصحية على كرسي متحرك عاودت للفن ثانية معتمدة على التقاطاتها الفوتوغرافية السابقة، فأنجزت عوالم لكائنات أشبه بالخرافية وسط خلفية سوداء إشارة لظلام أعماق المحيطات التي لا يصل إليها ضوء الشمس، فالبحر ينقسم إلى قسمين كبيرين: البحر السطحي، الذي تتخلله طاقة الشمس وأشعتها. والبحر العميق، الذي تتلاشى فيه طاقة الشمس وأشعتها ”أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج“ - سورة النور آية40-.

هناك أسماء فنانين تشكيليين مذهلين في رسم عوالم البحر لا يسع المجال لذكرهم، جندوا ريشتهم ليس من أجل التعبير عن هذا الجمال فقط وإبراز غرائبيته فحسب، إنما من أجل التوعية للمحافظة على الثروة المائية في كل مكان.

أكثر فنان أبهرني بأعماله البحرية التي تفوق الوصف هو الفنان الامريكي المبدع ”روبرت لين نيلسون“ ROBERT LYN NELSON صاحب أسلوب فريد، بتقديمه الرؤية المزدوجة أي ”فوق وأسفل الماء“ حيث تظهر في أعماله الحياة فوق وتحت سطح البحر، مبرزا الشواطئ المزدانة بالأشجار وامتداد الموج واختراق أشعة الشمس للماء وصولا لقاع البحر وما يحتويه من عوالم شتى في الوقت نفسه.

أطلق عليه مبتكر ”مدرسة العالمين البيئية السريالية للرسم“ وقلده الكثيرون، غزير الإنتاج ومتنوع المواضيع أنجز أكثر من 9000 عمل فني طبعا خارج أسلوبه الذي اشتهر به، ”العالمان“، برغم وفرة أعماله إلا أنه يأخذ وقتا طويلا في انجاز العمل الواحد تتجاوز الثلاثة أشهر وعلى نحو يومي ومتواصل، نظرا إلى دقة أعماله المفرطة والموغلة في تفاصيل التفاصيل التي تتميز حسب كلام أحد النقاد ببعد معقد يشبه الحلم للفن البصري، ويقول الفنان عن أعماله ”أعمالي أكثر سريالية منها واقعية“ بالفعل هي مزيج بين الواقعية والسريالية فمن الصعب أن نرى عالمين في وقت واحد، هو اوجد هذه الرؤية المبتكرة، فنال استحسانا عالميا لريادته في حركة الفن البحري الحديث، تحمل أعماله رسائل، تتضمن الحفاظ على البيئة البحرية منذ عام 1979 ولحد الآن.

بالنسبة إلى غواصي العالم، فإن العثور على البحر الجميل يشبه العثور على الجنة، سحر لا مفر منه وجمال لا يمكن إيقافه، ما تحت الماء حدائق ذات بهجة تسر الناظرين، ”فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ“.

نسمات بحرية:

دخلت تجربة الغوص في بحر ”شرم الشيخ“ مع ابني محمد في شهر فبراير 2017، لبست بدلة الغطس المطاطية وأسطوانة الأكسجين والنظارة والزعانف حذاء الأرجل، أثقال حمل أكثر من وزني مرتين، غصت والرهبة تسكنني، لكني رأيت الدهشة أمامي، مناظر لم أرها في حياتي من تكوينات فنية جمالية، أجواء ما تحت الماء ساحرة خلابة، ما هذا الذي نراه، نحن في عالم آخر! معروف بأن البحر الأحمر سمي بهذا الاسم نتيجة انتشار العوالق والطحالب التي تعكس اللون الأحمر، وهو مشهور بشعبه المرجانية المتنوعة، ويأتي إليه عشاق الغوص من بلدان عديدة، مدرب الغوص يحاول أن ينزل بنا أكثر عمقا، وأنا مرعوب، خائف كأن حياتي تجمدت في ظلمات البحر، يراقبنا ويلتقط لنا صورا للذكرى، حينها كنت أردد أغنية عبد الحليم حافظ ”إني أتنفس تحت الماء، إني أغرق اغرق، اغرق اغرق، يا كل الحاضر والماضي يا عمر العمر، هل تسمع صوتي القادم من اعماق البحر، إن كنت قويا اخرجني من هذا اليم، فأنا لا أعرف فن العوم“، حين خرجت من تحت الماء حلفت بأن لا اكرر التجربة ثانية، أصابني دوار وطنين اذن على مدى أسبوع كامل، تعافيت شيئا فشيئا بعد استعمال الأدوية لكن التجربة كانت ثرية.

وكم سرني حين شاهدت أعمال اثنين من فنانينا اقتنصا أشياء من البيئة البحرية غير المتعارف عليها كاشتغال فني.

حماسة صديقي الفنان حسين المصوف المغرم بصيد الأسماك على امتداد بحر القطيف والغواص الهاوي في بحار جنوب شرق آسيا، لم يكتف بالاستمتاع اللحضوي.

أو السياحي إنما جسد في أعماله البيئة البحرية الخليجية للقيعان الدافئة مستخرجا ”النو“ وطعمها في أعماله، وأيضا استلهم من الكائنات البحرية الغرائبية بتكوينات مبتكرة اقرب للأشكال السريالية السابحة والملتوية، كما نثر الأعشاب المائية الطافية على سطح الماء رسما وألوانا، ومعرضه ”صياد 2008“ وقادمه ”حالة جزر“ شاهد على افتتانه بكنوز البحر المخفية، وهو متفرد بهذا الاسلوب على الساحة التشكيلية السعودية.

أما ريشة أخي الفنان منير الحجي فقد تفاعلت لونا ورسما مع جماليات أشجار المانجروف ”القرم“، والتي كانت منثورة على طول سواحل واحة القطيف وجزيرة تاروت، فأنجز عديد اللوحات التي تتغنى بهذا الشجر الرباني، برسالة مفادها اتركوا ما تبقى من هذه الثروة الغالية فهي الملاذ الأخير لأسماكنا المحلية، لا نتمنى أن يأتي يوما ونقول

وداعا يا بحر!