آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 10:56 ص

تَارِيخ البكاء الحسينيّ!

ليلى الزاهر *

إنّ مناقب الإمام الحسين وسناء سيرته العطرة تدعو للتّأمل والبحث.

وجميع إطروحات المنبر الحسينيّ تنقاد طواعية عند الحديث عن عاشوراء الحسين فكلمات الخطباء المرصوصة أنجبتها أبحاث علميّة خرجت من بحر الحسين الزّاخر بالإنسانية.

إنّ التّنافس الشديد للحضور والاستماع لمصاب أبي عبدالله يُبسط كفّ الخطيب فيعطي بسخاء، وماكان هذا التّميز في الطّرح إلا لاجتماع أجيال متعددة طرق مسامعها صوتُ الحسين فجاءت تبحث عن معين يروي ظمأها.

ولاتزال الأجيال المتعاقبة تنشر ألوية الحبّ لسيرة أبي عبدالله، وما تلبث أن ترى العاطفيّ ينفصل عن قلبه ويندفع في رسالة عقليّة خاصة يقدمها للحسين بطريقة مختلفة عن رسائل أترابه. فكلّ جيل حسينيّ يُحبّ الحسين بطريقة مختلفة، والحسين يستحق أن يتجدد حبّه كل عامٍ بشتّى الطرق.

إنّ حبّي للحسين بلاشك يختلف عن حبّ أمي التي غذتني هذا الحب، وفي ضوء هذا الانفتاح الصّارخ للحقائق التاريخيّة تتلاشى العوائق التي تمنعنا من وراثة حبّ الحسين من أسلافنا حبّا دون أن نتعمّق فيه ونزيد من جرعاته.

إننا لاننسخ حبّ الحسين كناسخ تاريخيّ أو عاطفي وإنّما نبحث مُجددا في سيرته العطرة بما يتحقق مع مايُليق بمنزلة الحسين، التي جاءت فرعًا من جدّه رسول الله ﷺ.

فكيف بشرار الناس وهم يتجاهلون سمو ورفعة شأن هذا العلويّ وطفولته التي حلّقت على منابر التّقوى، وارتقت المناكب الشريفة، ليصبح الرسول خصيمهم يوم القيامة ويُحرمون شفاعته بعد قتله والتمثيل بجسده الشريف.

أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك كان النبي ﷺ يأتي باب عليّ وفاطمة عند كلّ صلاة، فيقول:

الصلاة يا أهل البيت: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا «الأحزاب: 33»

كرر رسول الله هذا العمل لستة أشهر كما ورد في مسند الإمام أحمد وقد روت ذلك زوجتا رسول الله ﷺ:

السيدة أم سلمة، والسيدة عائشة.

إنّ منزلًا يمرّ عليه رسول الله إذا خرج فجرًا فيعرّج على أهله لابد أن يكون لساكنيه شأنًا خاصًا في نفسه ﷺ.

ويُعد ذلك عرضا خاطفا للعلاقة العميقة التي تربط الجدّ بالحفيد الملتصق بجسد جدّه على الدّوام، وبمنزل ابنته السيدة فاطمة الزهراء . ولكن ما أن تلبث أن تفتح الباب الموصد الذي حِيكت خلفه جريمة قتل الحسين حتى ترى منطوق الدّموع يسبق الحرف والكلم.

إنّ حياة الحسين أنشودة عذبة في فم الحياة، وجوهرة نادرة في متاحف قلوب العالمين غير أنّ العاقل هو من يُجدد عهده بالبكاء على الحسين ببصيرة تزيد عامًا يتلوه عام، ولايستنجد بإرث والديه في حبّه للحسين وأهل بيته.

فالنّفس التّوّاقة لمجالس أبي عبدالله وتعشق البكاء عليه لابد أن تعلم يقينا أنّ هذا البكاء مؤرخ منذ بدء الخليقة فقد روى صاحب الدّرّ الثمين في تفسير قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ: أنّ آدم رأى ساق العرش وأسماء النبي والأئمة صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فلقّنه جبرئيل: قل ياحميد بحقّ محمّد، ياعالي بحقّ عليّ، يافاطر بحقّ فاطمة، يامحسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان. فلما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه وقال: يا أخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال جبرئيل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب. فقال: ياأخي وما هي؟ قال: يُقتل عطشانًا غريبًا وحيدًا فريدًا ليس له ناصر ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه، واقلّة ناصراه، حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان فلم يجبه أحد إلاّ بالسيوف وشرب الحتوف فيذبح ذبح الشاةِ من قفاه ويُنهب رحله أعداؤه وتُشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النسوة، كذلك سبق في علم الواحد المنّان.

فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى.

أما إطعام الطعام في أيام عاشوراء حبا بالحسين وتخليدا لذكراه فماهو إلا منهج أسس لبْنته الإمام زين العابدين بعد رياح الألم التي خلفتها كربلاء

عنْ عُمْرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: ”لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ «عليه السَّلام» لَبِسَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ السَّوَادَ وَ الْمُسُوحَ، وَ كُنَّ لَا يَشْتَكِينَ مِنْ حَرٍّ وَ لَا بَرْدٍ، وَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ «عليه السَّلام» يَعْمَلُ لَهُنَّ الطَّعَامَ لِلْمَأْتَمِ“

وكبرنا سويّا مع هذه الشعائر الحسينية وتوسعت مداركنا وصرنا نعشق الحسين ليس عشقا مثل عشق أمي وأمك بل زاد هذا العشق أضعافا مُضاعفة.

إنّ الحزن نديم لنا في عاشوراء، والسواد لباس لنا وفاءً لقافلة قطعتْ الفيافي وهي تندب الحسين في كربلاء مرورًا بالكوفة ودمشق حتى المدينة المنورة.