آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

رسائل من تحت الماء «4-5»

عبد العظيم شلي

أقبل الليل ولم تزل جولتنا في دروب البحرين تتوزع يمينا وشمالا، سرور ينتابنا بتصورات مسبوقة لمكان عائم، طالما حدثتنا عنه ابنتنا قبل أيام، واستجابة لاقتراحها شددنا الرحال إليه، مستدلين على موقعه عبر خريطة قوقل، إنه يقع في ميناء سلمان شرق جنوب المحرق، مكان لم يسبق أن وصلنا إليه قبلا.

بعد أن عبرنا جسر الشيخ عيسى بن سلمان المعروف بجسر الشراع، استوقفتنا الإشارة الحمراء عند تقاطع شارعي المطار والغوص، نظرت عن يساري أتأمل مجسما جماليا ينتصب عاليا، سرحت بعيدا لما وراء العمل، تماثل أمام عيني وجه الفنان الذي صممه، مستذكرا بعضا من سيرته الثرية. هو ذات الشخص الذي صمم جائزة الدانة، الذي احتفي به هذا العا في معرض البحرين للفنون التشكيلية السنوي في دورته «49» على نحو استثنائي، فقد خصص له منصة وسط بهو المتحف طوال شهر كامل، وهي أيام المعرض، وذلك من أجل التعريف بمنجزات فنان متفرد غاب عن الحياة نهاية العام الماضي صبيحة يوم الجمعة «9 ديسمبر -2022» تاركا إرثا فنيا حصيلة خمسة عقود، إنه الفنان المبدع خليل علي الهاشمي. إيه يا خليل، حلم روادك طويلا، وانتظرته سنينا تحقق بعدما منيت النفس كثيرا، ها هو ينتصب في أحد شوارع بلادك، التي ضاقت بك بما رحبت، وهي عزيزة عليك.

فقد ارتحلت عنها عام 1974 قاصدا الاتحاد السوفيتي من أجل دراسة الفن، ست سنوات منكبا عل تعلم فن النحت بدلا من التصوير الزيتي باعتقادك هو من يخلد الفنان أكثر من الرسم «التصوير»! توجهت لبلد هو مسكون في وجدانك، مرسوم في مخيالك، تركت كل عواصم الفن وأكاديمياته العريقة وآثرت موسكو. غادرت ”فريق أبوصرة“ في المنامة الذي ترعرعت فيه، نابذا شوارعه الخلفية العابرة للنزوات، والمتناقض بين التردي والرفعة، فله وجه آخر مشع غير ذلك الوجه المظلم، حيث يعج بالمثقفين ورجال الدين من كلتا الطائفتين الكريمتين، ومن بين جنباته تتعالى أصوات الطووايش بفتح صراتهم وحساب أجود الدانات، وعلى إيقاع المراويس تسمع من بعد دور الطرب وحكايات نواخذة الغوص وسمار الليل. تركت دروبه بأجمل الذكريات التي لها الأثر في تكوينك الفني الأول، حيث أُعجب ذلك الأمريكي بأعمالك الفنية في معرض نادي اللؤلؤ، وقال: ”هذا شاب فنان سيكون له مستقبل باهر“.

ومن بين ظلال أزقته أخذك الصحب خارج حدود الفريق، نحو أسرة هواة الفن، فتفتقت مواهبك على أنغام الموسيقى والغناء والتمثيل والرسم، هم شباب المنامة المتنورين، رواد الحركة التشكيلية في مملكة البحرين، وفي رحاب مكتبة «الطالب» وخارجها تشبعت بما دار من أحاديث المثقفين والوطنيين والقوميين، لكنك انحزت لليساريين، مسكون في الوقت ذاته بإغراءات الفن حيث وجهتك نحو الكتب الفنية الفاخرة التي تبيعها ”مكتبة العائلة“ التابعة للكنيسة، تتصفح دون شراء، نظرا لغلاء الكتب، 30 دينارا للكتاب الفني الواحد بينما راتبك كمدرس لمادة التربية الفنية 60 دينارا!

يوما بعد يوم شغف الفن يدفعك فهما ومعرفة واكتساب خبرة، ومن أجل تعلمه على أسس أكاديمية تركت التدريس في مدرسة الإمام علي الابتدائية عام 1973 م، وشددت الرحال نحو موسكو بتوصيات من الرفاق. حين وطأت قدميك العاصمة دهشة لجمال المعمار وروعة الفنون، وأدهشتك كثيرا النصب الجمالية والتماثيل الموزعة في كل السوح والميادين.

خطفت بصرك وألهبت مشاعرك وتيقنت بأن هذا الفن هو الأقوى والأدوم فقررت أن تتخصص في فن النحت.

وبعد 6 سنوات تحصلت على درجة الماجستير من أكاديمية الفنون الجميلة لينينغراد، عدت لبلادك ظنا منك بأن الوظيفة في انتظارك، شهادة عليا ستخولك للعمل بلا تردد، لكن كل الأبواب كانت موصدة في وجهك، وحتى شريكة حياتك منعت من دخول البلاد!

توجهت للكويت فرحبت بك مدرسا للتربية الفنية في إحدى مدارس العاصمة. عشر سنوات وغادرتها مجبرا نتيجة الغزو العراقي عام 1990، رجعت لبلدك وبسبب انتماءك الحزبي، لم تزل الأبواب كما هي موصودة في وجهك.

لم تيئس، ولم تلعن الحظ، الفن يسري في عروقك. أقمت ورشا فنية لتدريب الشباب الموهوبين من كلا الجنسين مع ممارسة أعمال حرة، ومن ضمن تلميذاتك الفنانة السعودية مهدية آل طالب التي تعشق النحت واستفادت من خبراتك، وكاتب السطور رآك ذات مرة في غرفة إحدى ورش جمعية البحرين للفنون التشكيلية عام 1996م، دار كلام حول الفن على نحو مختصر.

استديو منزلك حولته لمحترف فني، يغص بالتماثيل والمجسمات والنصب الجمالية، كنت تمني النفس لترى إحداها يتحقق على أرض وطنك، وبين حل وترحال ومشاركات دولية، التفتت إليك مدينة أصيلة المغربية عبر مهرجانها السنوي في الدورة 36 عام 2014، وقالت: ”هيت لك“، جسدت عملا فنيا على أرضها اسميته ”ما لم تصل ما لم تبحر“ عرف زوار المدينة الساحلية المطلة على المحيط الأطلسي بأن نحاتا من مملكة البحرين اسمه خليل الهاشمي أنجز هذا العمل المنتصب في حديقة المفكر عابد الجابري، كم نالهم الإعجاب وآخرين التعجب، فقد أشحت عن ضيوف المهرجان غشاوة النظرة القاصرة، أيوجد نحاتون في الخليج! وبتأكيد مضاعف حينما رأى الحضور مجسماً آخر لابن بلدك النحات خالد الفرحان بعمله ”تراكمات ورقية“ زادوا ثناء على ثناء، وأقروا بصلابة وقوة تعابير الأزاميل البحرينية.

وقف النقاد والفنانون المغاربة مبهورين بعملك يا خليل مشيدين بفكرته العميقة واختزال عناصره، مجسم مريح للبصر دال في تأويل أبعد من كتلة الرخام، رجل يقف في نهاية قاربه ينظر في البعد، وحسب تفسير الناقد البحريني محمد الخزاعي: ”عمل عبارة عن قارب بحري يزيد طوله على 3 أمتار، مصنوع من الرخام، وفي أحد طرفيه شخص واقف يراقب الأشياء من موقعه وهو يدل على فكرة أن الشيء لا يمكن عتقه ما لم يجر إنجازه، وأنه يحيل إلى تجربة السفر“.

أسفار توق بين بحر الخليج وأمواج المحيط،. بين البحرين بوصفها جزيرة الغوص واللؤلؤ وأصيلة المغربية مدينة الصيادين.

وبالقرب من أمواج البحر، وعلى ضفاف جزيرة المحرق، وضمن ربيع الثقافة البحريني الموسم الثالث عشر، أقمت معرضك المميز على صالة عمارة بن مطر، ”الجنة المفقودة“ - قصة آدم وحواء - منحوتات جمالية ذات أبعاد فلسفية تتمثل بطريقة رمزية، نحو الصلة بين البشرية والخالق.

ونظرا إلى إسهاماتك الفنية المتنوعة في مجال الفنون البصرية حزت جائزة ”إنجاز العمر“ من مجلس التعاون الخليجي تقديرا لإبداعاتك.

المطلع على سيرتك يا خليل، يعرف بأنك لست نحاتا فحسب بل رساما ذو قدرة عالية، ومصمم شعارات، وفنان ملتزم، عبرت عن هموم الإنسان وقضاياه.

تكرر أنفاس حلمك متى يكون لك نصب جمالي في بلادك؟

وبعد طول انتظار التفت لك المقدّرون من أبناء وطنك بتحقيق ذلك الحلم، فتظافرت الجهود البنكية مع هيئة البحرين للثقافة والآثار لاختيار إحدى مجسماتك، وبعد عزم واشتغال وزمن استغرق 3 سنوات من تحضير وتجهيز ودراسة، مرورا بمراحل التنفيذ، انتصب مجسمك الجمالي ”سرب الطيور“ بارتفاع يتجاوز السبعة أمتار، وثمانية عرضا، عام 2018، لكنه أقل مما خطط له على التصميم والنموذج المصغر، الذي كانت أبعاده في الأصل 15 متراً، وقلصت إلى النصف، وبعد شد وجذب ووجهات نظر متبادلة بينك والشركة المنفذة، اقتنعت على مضض، فرحت يا خليل وكأن حلمك جاء بعد مخاض طويل، سلمت بالأمر، قائلا: ”شيء أحسن من لا شيء“.

مجسم شامخ يمثل حركة طيور النوارس في أثناء هبوطها على سواحل البحرين بتحليقات على ضفاف البحر وسطحه بخفة ورشاقة، خطفات أجنحة نحو الأسفار من ماء إلى ماء ومن ساحل إلى ميناء، توق للحرية دون قيود، مجسم مليء بالمعاني يحي المارة، ويبعث سلامات لكل الناس.

قُرِئَ المجسم بأبعاد فكرية وفنية من أقلام عديدة، أما رسالة الفنان فقال عن عمله: ”للطيور خاصية تفتقر إليها الكائنات الأخرى، فهي تملك حرية أن تتقيد بالأرض، أو تحلق في عنان السماء، وهي بذلك ترمز إلى معان كثيرة، كالحرية، والسلام، والوئام، والحب، وهي كذلك أقرب إلى الإنسان لكونه ينشد كل تلك المعاني،“ ويؤمن الهاشمي بأن العمل الفني أي كان لابد له من رسالة، مؤكدا: ”إن أي عمل فني دون أبعاد فلسفية عمل ناقص، فلابد للعمل أن يكون على اتصال بمواقع الفنان المعاش، وأن يحمل أبعاداً تحمل فسحة التأويل، وتتيح للمتلقي أن يسرح في فضاء الخيال“.

طوال توجهي جنوب شرق المحرق كنت سارحا متأمل مجسم ”سرب الطيور“ مستذكرا ما قرأته، واطلعت عليه سابقا، متوقفا عند بعض سطور جريد الأيام: ”سرب الطيور ينتصب كتوليفة تزاوج بين ترقرق أجنحة الطير، وهي تحلق عاليا للسماء، وترقرق الماء، وهو يرسم بسرياليته حركة سطح البحر“.

وداعا يا خليل افتقدك الفنانون والمثقفون من أبناء بلدك الموقنين بأنك افضل نحات أنجبته البحرين، ونعاك الرفاق والرفيقات في المنبر التقدمي، الذي تنتمي إليه عقلا وروحا،

كرموك في احتفالية تليق بك، وحين غادرتهم بعد عناء مع المرض جعلوك حاضرا في قلوبهم وفي ضمائرهم.

وعبر صفحتهم الإلكترونية، ثمة سطور نعي تفيض محبة لروحك الثائرة والمبدعة:

”الهاشمي سيرتبط اسمه بشعار التقدمي الذي نكن له الكثير من المشاعر وندين له بالكثير من العمل، الطائر الذي يرف بجناحيه حاملا المنبر التقدمي غادرنا غير أن ذكراه العطرة وأثره الكبير في نفوسنا باق ما بقي الطير يرف بجناحيه“.

كلما مررت على مجسم ”سرب الطيور“ تذكرتك يا خليل، متسائلا ماذا لو نفذت جميع مجسماتك الفنية، لأضحت البحرين متحفا مفتوحا لنصبك الجمالية المعبرة عن القيم الفكرية والإنسانية.

فيض الخاطر:

إن كان خليل الهاشمي كُرّم على مستوى مجلس التعاون الخليجي بجائزة ”انجاز العمر“، فعندنا ما يماثله قوة فن وصلابة نحت ورشاقة خط عربي، ألا وهو الفنان المبدع، كمال منصور المعلم الذي شمله التكريم أيضا، وتحصل على نفس الجائزة، تسلمها عن جدارة واستحقاق، نظير إنجازاته المميزة، فقد مثل المملكة خير تمثيل، في العديد من الملتقيات الفنية العالمية، سيرته الفنية، عطرة، وضاءة، بعطاء وإخلاص للفن والمجتمع.

لم تزل أحلامه مترعة تتلألأ بانعكاسات شمس الصباح، متراقصة على صفحات بحر سيهات، يبصرها كائنات حية، يخاطبها وتخاطبه بملء القلب والوجدان، وأعز أمانيه تحقيق حلمه الأكبر الذي يداعب خياله منذ زمن بعيد، لن تهدأ أنامله إلا إذا رآه شاخصا أمام عينيه، شامخا على أرض وطنه، تراه كل العيون، عندها سيبتسم، ويقول: ”أديت الأمانة، وعندها لو غادرت الحياة، سأنام قرير العين“.

هل يتحقق حلم كمال مثلما تحقق حلم خليل، ذاك عاشق للطيور وهذا عاشق للخيول، طيران وجموح، ثيمتان متكررتان في جل أعمالهما إنهما مسكونان بالانطلاق نحو آفاق أبعد، توقا للحرية في أجل معانيها، والفن ينمو في هذا المناخ الرحب، مبدعان متخرجان من أرقى الأكاديميات الفنية - موسكو، فلورنسا - وهما أبناء بحر، والبحر لا يخيب همم المبحرين، ودانات الإنجاز. ستبصرها العيون ولو بعد حين.