آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

رسائل من تحت الماء «5-5»

عبد العظيم شلي

أصوات نوارس تتهادى أنغاما على ساحل البحرين، وهدير موج نسمعه عن قرب، نبصر مصابيح أعمدة مضاءة على امتداد شارع طويل، لأول مرة نسلكه، سياقة دون استعجال، قاصدين ميناء سلمان، أقصى جنوب المحرق، مسافة ممتدة لا نعلم أين منتهاها، درب كان بالأمس بحرا!

نتتبع اللوحات الإرشادية لعلنا نصل بين لحظة وأخرى لمبتغانا، أخيرا بانت علامات المكان، هاقد وصلنا للبوابة الرئيسية لميناء المسافرين، أوقفنا ”السكورتي“ وبعد التحية والسلام وسؤاله لنا عن سبب مجيئنا، اجبناه بما نريد فقال: ”أنتم وصلتم بالفعل، وتلك المتلألئة تحييكم، لكن ممنوع الدخول بالسيارات الخاصة، رجاء ارجعوا إلى أن تصلوا عند مدخل أول مجمع سكني على يساركم، هناك ستجدون ساحة تجمع الحافلات، ستركبون إحداها، وسوف تأخذكم إلى هنا، وذلك حفاظا على النظام وتجنبا للزحام أمام الميناء“، رجعنا مقدار الطريق الذي قطعناه تقريبا.

حين وصلنا حسب الوصف وبعد أن ترجلنا من سيارتنا هالنا منظر الحشود الطويلة، صفوف مصطفة تنتظر دورها، بشر غالبيتهم من مواطني الهند مع أسرهم وبعض من الفلبين، وقليل جدا من البحرينيين! الزوار مصطفين بكل أدب جم ينتظرون دورهم لركوب الحافلات التي ستقلهم لمكان الحدث.

ضحكنا من حالنا، بسبب تأخرنا، معاتبين أنفسنا لماذا لم نأت منذ الصباح أو على الأقل عند العصر، حقيقة لم نكن نعلم بأن منظر الزحام كثيفا لهذه الدرجة، مشهد غير متوقع، ننظر إلى الساعة التي تشير للثامنة والنصف، فأي نصيب سيأتينا، بينما الإغلاق في حدود الحادية عشر، مستحيل يأتي دورنا في ظل هذا التكدس البشري، وربما الكثير من المنتظرين لن يسعفهم الوقت للدخول.

ابنتي قطبت جبينها متبرمة، وهي التي كانت تأمل أن ترى المكان الذي قرأت عنه كثيرا، وهي من أبلغتنا عنه.

قلت لها ”يا بنتي فرصة ثانية في عام آخر، نأتي مبكرا لعلنا نحظى برؤيته“ ردت: ”لكن هذا اليوم هو آخر يوم“؟ قالت لها أمها: ”إي دور اللي راح يجينا، بس نضيع وقتنا من غير فائدة، خلاص مشينا، خيرها في غيرها يا بنتي“.

وبينما نحن حيارى نتأمل الصفوف الملتوية فوق الأرصفة، وعلى الشارع كانها ثعابين ساكنة تنتظر دورها لصعود الحافلات، اقتربت من نقيب يشرف على تنظيم حركة السير، كان بالقرب منا، رجل ترتسم على محياه الابتسامة، صافحته مستفسرا عن سر هذه الحشود الضخمة؟

ظل ممسكا بيدي، وكأنه يعرفني، وعلى ما يبدو سمع شيء من عتابنا لبعضنا ورد على سؤالي قائلا ”حقيقة المكان تجربة جديدة تستحق المشاهدة، واليوم آخر يوم، وصادف يوم إجازة العمال الأسبوعية فصار الزحام شديدا كما ترون“، قلت له: ”يبدو بأننا أخفقنا بتحقيق رغبة ابنتنا المتحمسة منذ أسبوع لهذا الحدث، لم تكن لدينا الفرصة المجيء للبحرين خلال الأيام الماضية، بسبب الارتباطات والمشاغل“، قال: ”أنتم موبحرينين“ قلت له: ”جيرانكم من المنطقة الشرقية“.

برحابة صدر قال لي: ”حياك“ رددت عليه ”عفوا.. وين“؟ قال: ”اتبعني، هذا الباص الجاي اصعدكم فيه حالا“! تعجبت وأنا أتمتم بكلام المتمنع الراغب ”ما يصير نتقدم على هؤلاء الناس“، قال: ”علشان هالصغيرة ما ترجع زعلانه“!

وبالفعل استقللنا الحافلة وإحساسي متباينا، بين فرحة المشاهدة وعدم ضياع الفرصة وبين تأنيب الضمير المتصنع، كيف قبلت على نفسي بتجاوز كل هذه الطوابير المنتظرة منذ ساعات وأتجاوزها بكل سهولة وبساطة! غضضت الطرف، مهدئا نفسي، ولا على المسافر من حرج!

بعد مشوار يتجاوز 10 دقائق وصلنا لعين المكان، هبطنا على رصيف الميناء بسلام، مشينا قليلا، ونتفاجأ بصف بشري طويل متعرج لكنه يتحرك ببطيء.

عند بداية درب الصعود دفعنا نصف دينار لشراء تذكرة لكل واحد منا، مشينا الهوينة عبر ممر ضيق يرتفع بنا للأعلى، صعدنا جسرا يتأرجح هوائيا مع نسمات البحر الرطبة، نقف قليلا، ونواصل المسير، إلى أن وصلنا باب السفينة الضخمة المشعة بأنوارها الخارجية والداخلية، دخلنا والحركة أبطأ وأبطأ، ثمة تعليمات من امرأة غربية تتحدث باللغة الإنجليزية تلقى على مسامع الزائرين على شكل دفعات حول هوية المكان وتاريخه وبرامج الفعالية.

أخيرا دخلنا أكبر معرض كتاب عائم على مستوى العالم تضمه سفينة ”لوجوس هوب“ الألمانية.

يا لها من زحمة كتب، وزحمة بشر، رطانات لغات، والحركة كابوس تمنعنا من التمعن والتصفح، كتب تحمل عناوين منوعة تقدر ب 5000 كتاب، مصفوفة على رفوف مرتبة حسب النوع والصنف والفئات والأعمار، بالكاد

نقلب بعضها، ثمة مطبوعات قليلة من كتب عربية بأسعار مناسبة، لكن ليست مغرية، مقارنة بما يقدم في معارض الكتب المعروفة عربيا وخليجيا، الشيء اللآفت كثرة كتب الأطفال باللغة الإنجليزية، تصفحت بعضا منها فقد أدهشتني طريقة القصص المصورة رسما، وإخراجا وتنسيقا، فهي على مستو عال من الاحترافية، جاذبية الرسم والتلوين الممهورة على أيد فنانين محترفين في استنطاق الكلام المكتوب إلى تصور مرئي.

كلما تقدمنا قليلا باتت حركتنا أصعب، التجوال خانق، نشعر بأن أقدامنا شبه مكبلة، عوائل هندية تملأ حيز المكان، تفوح من شعورهم اللامعة روائح جوز الهند النفاذة، والنسوة متأنقات بالساري ألوان وأشكال، تأسرك طيبة شعب هادئ ومسالم، بتنا نخوض الزحام كموجة في المحيط الهندي، إن تصفحت كتابا اصطدمت بكتاب متصفح آخر، ترتبك الخطوات، تصورت نفسي في الاسكندرية داخل سوق شعبي يسمى ”زنگة الستات“ بسبب ضيق شوارعه وكثرة مرتاديه، فمن الصعب أن تتجول، ولا تلامسك أحدهن عن غير قصد، وأن تجنبت لا تسلم من الوخز أو دفع المتبضعين والمتبضعات.

لم نمكث كثيرا في المعرض، بسبب الزحام الشديد وأيضا لعدم إغراء المعروض الذي أطلقت عليه توصيفا حسب نظرتي السريعة ”معيرض“ أو مكتبة كبيرة متنقلة بحرا، ولكني تذكرت كلمة النقيب بأن الحدث برمته ”تجربة جديدة لتسويق الكتب بمنظور مختلف“.

بالفعل عرض استثنائي لكتب معرفية متنوعة في جوف السفينة المبحرة منذ عام 1970 التي استقبلت على متنها أكثر من 50 مليون زائر من جميع أنحاء العالم، وفي كل محطة تقف فيها تسعى لتوفير بعض الكتب باللغة المحلية لكل بلد تزورها، فهي دائمة التجوال عبر البحار والمحيطات، ومن ميناء إلى ميناء.

اقتبس بعضا من ارتحالات هذه السفينة التي لم تهدأ طوال العقود الماضية: " سفينة لوجوس هوب

LOGOS HOPE

سفينة تابعة لمنظمة غير ربحية في ألمانيا تهدف إلى مشاركة المعرفة والثقافة والأمل مع المجتمعات عبر العالم، قامت السفينة بزيارة أكثر من 1500 ميناء في أكثر من 150دولة، تبقى في كل بلد لمدة أسبوعان، يتكون طاقم السفينة من 290 متطوعا من 70 جنسية مختلفة، يقومون بدور إنساني مهم بزيارة الأيتام والمستشفيات لمساعدة المحتاجين ".

إذا رسم الدخول ومبيعات الكتب تصرف في وجهات إنسانية، ما أجملها من أهداف قيمة.

يبدو بأن السفينة رست في البحرين على نحو هادئ، استقبال الزوار وتسويق الكتب بسعر مناسب ارخص نسبيا من بعض المكتبات التجارية، مع تقديم ألعاب بسطية للأطفال مثل تتبع قصة مصورة على جدران الممرات، وكأن الطفل هو محور بطل القصة، وكذلك تلوين وجوه الصغار مجانا مع ممارسة ألعاب ترفيهية تحفيزية لخيال الطفل، وأيضا عرض صور فوتوغرافية معلقة على الممرات تحكي محطات السفينة مع ذكر التواريخ والأمكنة التي رست فيها.

هذه السفينة العملاقة حجما والممتلئة أهدافا إنسانية، حين رست قبل ثلاثة شهور في ميناء البصرة كان الأمر مختلف تماما عن تواجدها في ميناء البحرين؟

فقد احتفى بها البصريون بطريقة تفوق الوصف، فقد قدموا أنشطة نوعية على متنها خلال أسبوعين شملت 12 فعالية:

1- معرض الفن التشكيلي والنحت لـ 12 فناناً وفنانة.

2- معرض الخط العربي والزخرفة لمجموعة من الخطاطين والخطاطات.

3- معرض الصور الفوتوغرافية لـ 14مصور ومصورة.

4- معرض الطوابع والعملات والمسكوكات.

5- ست ندوات ثقافية متنوعة.

6- مسرحية للأطفال.

7- جلسات شعرية لعشرة شعراء ببن شاعر وشاعرة.

8- كورال موسيقي لكلية الفنون الجميلة.

9- عرض لاوركسترا الطفل.

10- معرض للأفلام الوثائقية.

11- عروض ثقافية وتراثية متنوعة لمختلف الجنسيات.

12- ندوات حوارية وثقافية مختلفة.

وأيضا زيارة فرق رياضية وكشفية، وخاض طاقم السفينة مباراة ودية في كرة القدم مع فريق كلية التربية الرياضية، وتبارى الفنانون برسم السفينة مباشرة من زوايا مختلفة، نشاط يسابق نشاطاً وزواراً من مختلف فئات المجتمع، حين ارتحلت السفينة عن ميناء البصرة تركت عند الجميع أجمل الذكريات، بحراك ثقافي متميز وتفعيل نفعي ومعنوي متبادل.

الإشارة لرسوها في ميناء البصرة ليس من باب المفاضلة، وإنما كيف تنظر عقولاً لحدث ما، وتتعامل معه بصورة مغايرة.

وحقيقة البصريون محبو علم وفن وثقافة وموسيقى وغناء لم يتركوا السفينة ترسو في مينائهم على نحو عابر بل استثمروا زيارتها لمينائهم بعرض ماتزخر به مدينتهم من نهم معرفي ووعي فكري، فقد حضر المثقف، وشارك الأستاذ الجامعي وتفاعلت مجاميع من طلاب المدارس والجامعات، وحتى رياض الأطفال حضرت، وصدحت ببين جدران السفينة، فضلا عن أعداد المتطوعين بإحصاء يدعو للعجب، فالجهود التطوعية البصراوية بلغت كالآتي؛ 100 مترجم ومتطوع للتنظيم من جامعة البصرة، 400 مشارك في تقديم الفعاليات والعروض، 15منظمة مجتمع مدني، 8 مؤسسات ثقافية، وهناك إحصاء عن أعداد الزوار منذ الصباح إلى الليل، وإقبال على شراء الكتب بأكثر من لغة، إقبال منقطع النظير لشعب حضاري، هذا الشغف البصراوي يؤكد حقيقة المقولة السائدة عن أبناء الرافدين، ”القاهرة تكتب وبيروت تطبع والعراق يقرأ“!

هل صحيح شعب عن شعب يختلف وقدرات أمة عن غيرها تختلف؟ بلا شك التراكمات الحضارية تلعب دورا في ذلك.

إجمالا الشعوب البحرية والنهرية، منفتحة على الثقافة والفنون بصورة أكبر من الشعوب البعيدة عن الماء.

حينما غادرنا سفينة ”لوجوس هوب“ تباينت آراؤنا، واجمعنا على الفكرة الخلاقة والأهداف السامية من إبحارها.

إنه لأمر مدهش أن ترى المعرفة والفكر على متن سفينة تجوب البحار والمحيطات على مدى 53 سنة ولم تزل تبحر.

وما أجمل أن يبحر الإنسان في عقول البشر المدونة عبر صفحات الكتب ومساحات الفن، كتب مضى عليها الآف السنين وقبل الميلاد لم تزل تقرأ، ورسوم منقوشة على جدران الكهوف أبدعها الإنسان الأول لم تزل تدرس، ولوحات معلقة على جدران المعارض والمتاحف مر عليها قرون لم يزل ينظر إليها بشغف، كتب ورقية تباع في معارض الكتب يتزايد عليها الإقبال بروح عالية مفرزة نقدا وتأملا جماليا وقراءات متنوعة بحوارات لا تنتهي تحكي عن مدى ارتباط الإنسان بكافة الفنون والعلوم، لهو دليل بأن اللون والحرف مرآة للبشر مجبول على صنعهما في كل العصور.

رسائلي المائية داعبت الحواس وتغنى فيها الخيال سفرا خلال يوم واحد، وبين جولة وأخرى أُردد مقطع العندليب: ”الموج الأزرق في عيني يناديني نحو الأعمق“، نحو الأعمق لكل ما ينشط الفكر، ويعزز الذائقة ويلهم الإبداع.

ثمة نصيحة فنية مفاده ”هل ترسم لإرضاء الآخرين أم أنك ترسم ما تشعر به تجاه نفسك؟ يعنيك من الجواب شيء واحد، استمر في السباحة، استمر في السباحة، اعمل إلى حد بعيد، وكأنك تسبح بلا توقف لأن الحركة شريان الحياة“، وهذا ينطبق على كل مجالات الفنون والآداب التي أبدعها الخلاقون، نتيجة الجدية والعمل المستمر بفطنة ويقظة، سيرهم الذاتية تأمرنا بأن نغذي حياتنا كل يوم بالقراءة والاطلاع والكتابة والرسم، وكل ما هو نافع وجميل من فنون الألق، حياتنا ستتضاعف، كأننا نعيش سنوات إضافية، وارث الإنسان المبدع سيبقى ما بقي الإنسان على وجه الأرض.

وميض الذاكرة:

تجوال السفينة في منطقة الخليج ارجعني لمشهد نادر غاب عن ذاكرة الكثير من الفنانين لا يذكره إلا القلة من فناني البحرين، ففي صيف عام 1988 م، أقامت جمعية البحرين للفنون التشكيلية معرضا للكتاب التشكيلي، في مقرها الكائن بشارع البديع، معرض عرفت عنه من خلال تلفزيون البحرين عبر تقرير مقتضب حول لحظات افتتاحه، تحمست لزيارته لكني مع الأسف لم أحضره، بسبب انتهاء جواز سفري ووقتها لم يتم التعامل بالهوية الشخصية، فألزمت صديقي الفنان والكاتب محمد حسن الدرازي بزيارة المعرض، بالفعل ذهب، واشترى لي فقط كتابين حسب توجهي وميولي الفنية وقتئذ، وهما باللغة الإنجليزية اسم الكتاب الأول: Painters of Fantasy

الكتاب الثاني:

Dutch & flemish painting

طباعتهما فاخرة، وورقهم مصقول وبحجم موحد فهما تابعين لدار نشر واحدة، إذ يبلغ مقاسهما41 ×29سم، أبعاد الكتابين تفوق أغلب مقاسات الكتب الفنية التي بحوزتي من قديمة وحديثة باستثناء كتاب الفنان الإيراني المبدع ”محمود فرشجيان“ التي طبعته اليونسكو بنسخ محدودة ولحسن حظي املك واحدة من تلك النسخ، هذا الكتاب أشبه بالوسادة من ضخامة حجمه وثقل وزنه. وعن ذلك المعرض النوعي الذي يشبه ومضاً في الذاكرة، لم أجد له أي تقرير في عالم النت، ولا حتى إشارة لاستشهد به، وأيضا ليس لي علم عن كيفية إقامته ومن كان يقف وراؤه، كنت أظن بأن جمعية البحرين للفنون التشكيلية الذي عرض على صالتها هي من نظمته من الألف للياء، ولكن الحقيقة ظهرت لي بعد مرور أكثر من 53 عاما عبر استفسار وجهته إلى أخي الفنان البحريني عباس الموسوي مستفسرا عنه فأجابني عبر تسجيل صوتي: "

مرحبا، يا هلا بعبد العظيم الرجل الطيب، صاحب الأفكار الغزيرة النيرة، أذكر هذا المعرض، هو بناء على طلب من مؤسسة اعتقد ”نيكون“، هي ”الاسبنسر“ - الممول -، وأيضا بالتعاون مع ”مكتبة جشلمان“ في البحرين، لأن الكاميرات كانت تباع في المكتبة وقتها في الثمانينيات الميلادية، وكانت عندنا حملة للتصوير، وهم كانوا الاسبنسر، أقمنا بالفعل معرض الكتاب في جمعية البحرين للفنون التشكيلية، بعد أن جمعوا كل مايخص مجالات الفنون البصرية، تشكيلية، فوتغرافية، نحت، ديكور، عمارة، كتب بمختلف الثقافات وبأكثر من لغة، ومن ضمنها العربية، أقمنا المعرض لكن الإقبال نخبوي مقتصر فقط على الفنانين والفنانات.

أذكر كثير من كتب المعرض بقيت في البحرين، عند من؟ عند المرحوم حسين علي، هذا الصديق أنا وياه أسسنا نادي التصوير الفوتوغرافي في البحرين، فهو الذي احتفظ بمجموعات الكتب، أم الشخص المعني بترتيب المعرض والإشراف عليه أتذكر شكله، لكن غاب عن بالي اسمه، هو مسؤول كبير في مكتبة جشلمان، وأظن بأن مكتبة العائلة أيضا اشتركت فيه ببعض الإصدارات، وهي السباقة في جلب الكتب الفنية في البحرين، إجمالا كل كتب المعرض أكثرها ظلت لسنين عديدة عند حسين علي لأن الذي بيع منها قليل جدا، تقريبا في حدود عشرة، وقال لي مرات: ياعباس إذا شفت مسوق للكتب كلمني، هذا الكلام من مدة طويلة، فهذه كل الفكرة.

أحاول إذا التقيت بولده بالصدفة بسأله عنهم، وباقول له من بين مكتبة الوالد يوجد كتب فنية مكدسة، هل نقدر نطلع عليها؟ إذا حصلت منفذ راح أخبرك، بس هذا يعتمد على الصدفة.

لأن عندي شغل كثير هالأيام، مشروعي القديم الذي اشتغلت عليه منذ منتصف التسعينيات من 1995-2000 وأنت تعرف محطات ترحاله محليا وعربيا وعالميا، حاليا عودة له لكن بصورة جديدة، بتأسيس حاضنة وبرؤية مستدامة، هو مآخذ كل وقتي، بحيث أن الدولة كلها صارت مهتمة بمشروع ”الفن والسلام“ هذا همي الأكبر. مرة ثانية مشكور عزيزي عبد العظيم وإذا عندك شيء لا تردد وإن شاء الله نشوف لك هالمواضيع المرتبطة بالقرون الماضية، تحياتي ".

شكرت الفنان عباس بملء القلب مؤكدا له بأن هذا المعرض مثل حالة خاصة في بلادنا العربية فلم أسمع أو اقرأ بأن أقيم معرضا خاصا بالكتب الفنية سوى هذا المعرض اليتيم، واسترجعت معه حوارا مطولا مشابها حول الاشعاعات الفنية التي تشع وسرعان ماتنطفئ ومع مرور السنين تنسى، ومن ضمنها ذاك الإصدار العربي الفريد من نوعه الذي كان العراق يقف وراءه، بطرح مجلة فصلية، تعني بالفنون التشكيلية اسمها ”فنون عربية“ اشرف عليها الناقد الفني والأديب والروائي جبرا إبراهيم جبرا - مؤسس جماعة بغداد للفن الحديث 1951م - مع الشاعر والناقد الفني العراقي بلند الحيدري وثالثهم الفنان المبدع العراقي ضياء العزاوي مصممها الفني.

مجلة راقية بكل المقاييس الفنية، من جودة محتواها وفخامة طباعتها ودسامة المواد الموزعة على160صفحة واحيانا تصل إلى 176صفحة، بمقاس 30×24سم، تحسبها مجلة غربية بحروف عربية. فهي أنيقة المنظر مغرية فنيا، وبكل تطلع قومي قامت بإصدارها مؤسسة عراقية اسمها ”دار واسط للنشر“ التي طبعتها من فرعها في لندن.

فرح الفنان العربي من المحيط للخليج، واستبشر بهذا الإصدار الطامح بدفع عجلة الفن العربي قدما نحو التألق والانتشار والتقدم، لكن بعد الإصدار السابع، وعلى مدى أربع سنوات 1980-1983 انقطع الحلم، لأن عراق الأمس أوقف دعمه لها، بسبب انشغاله في حروب لا معنى لها!، مجلة رائدة كانت تباع ب 20 ريالاً، وكل الاصدارات السبع اشتريتها، ويحتفظ بها بعض أصدقائي من فنانين خليجين وعرب، وكم تحدثوا عنها بفخر، وأسف على انتهاء مجلة نوعية كان يجب أن تبقى نبراسا للفن العربي.

أظن بعد مرور السنين لم تأت مجلة تسد فراغها، لا مجلة ”الحياة التشكيلية“ ولا ”الفنون الجميلة“ السوريتين ولا ”النقطة اللبنانية“ ولا مجلة ”جريدة الفنون الكويتية“،

على الرغم من الجهد المقدر لهذه المجلات ونشرهما ثقافة الفن إلا أن مجلة ”فنون عربية“ تتفوق عليهم جميعا، باتت مرجعا فنيا لكل باحث وفنان.

أنفاس سنين ترسل سلامات إلى عراق النهرين ودلمون البحرين فهما بذرا وسقيا أشجار فن وثقافة.