آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

وسراجا منيرا «1»

البعثة النبوية من أهم محطات تاريخ البشرية المشرق والذي استطاع فيه الرسول الأكرم ﷺ هدم أبنية الشرك وظلمات الرذائل الأخلاقية، وإعادة بوصلة التفكير وفق العقل الواعي وذلك في فترة قصيرة ليس من السهل على أحد أن يحدث هذا التغيير العقائدي والأخلاقي، والذي ابتنت عليه أنفسهم لمدة طويلة وورثوه من آبائهم وساروا عليه سير الأعمى في ظلمات الليل، نعم لقد شعت أنوار القيم والتوجيهات النبوية التربوية والتي أعادت صياغة شخصيات الناس من جديد في عقولهم ومشاعرهم وأخلاقهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم، والتي كان يحيط بها الظلام الكالح من كل الجهات فنظرة سريعة لحياة الناس في فترة الجاهلية تظهر ذلك الانحدار المتجه بهم نحو الهاوية في كل جوانب حياتهم بلا استثناء، فأي جهل كانوا عليه وقد سادت بينهم عبادة الأصنام والأوثان والاعتقاد بأنها المحرك والمدبر لمقاليد الأمور وشئون الكون وأحوال الناس، وعلى المستوى الأخلاقي انعدمت عندهم القيم والروح الإنسانية النبيلة وتعاطوا بمبدأ الغاب وغلبة القوي واستهضام ونهب حقوق الضعيف، وعلى ذلك قس في الجوانب الأخرى الظلامية في حياتهم وعلاقاتهم، حتى جاء النور المحمدي لينفض عنهم الظلام الحالك الذي لف حياتهم ونشر بينهم نور العقل والتفكر في الأمور والمفاهيم بفكر واع ورشيد، فدعاهم للتفكر في آلهتهم المزعومة في قوتها وقدرتها وهي كومة حجارة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فكيف تجلب لهم النفعية والخيرية، وإذا ما رجعنا إلى الحوارات التوحيدية الرائعة التي خاض فيها الرسول الأكرم ﷺ المعركة الحقيقية ضد الجهل والتقليد الأعمى، فساق الأدلة العقلية المشيرة إلى مبدأ النظام في الكون والذي يكشف عن قدرة غيبية محركة للكون وفق نظام دقيق لا اختلال فيه أبدا، وأقبل إليهم بمبدأ المحبة والسلام والتسامح لينزع من قلوبهم بذرة الشر والعدوانية والأحقاد، والتي كانت تقودهم إلى الخصومات وقطع الأرحام والاحتراب لأتفه الأمور والأسباب، جاء لهم ﷺ ليعيد لهم الأمل بالترقي بشخصياتهم من وحل الأهواء والتصرفات اللا مسئولة إلى عالم التكامل العقلي والسلوكي والترفع عن الرذائل الأخلاقية.

وأعظم عامل في استرشادهم للحق وهدايتهم لعالم الفضيلة هي تلك الشخصية النورانية للنبي محمد ﷺ، لما كان يمتلكه من نفس طاهرة وصدر رحب يتسع لإساءاتهم وتعاملهم القاسي ونقاشاتهم المنحدرة إلى التهكم والسخرية والشتم، رسول امتلك آلية الجذب والمحبة في قلوب الناس على اختلاف عناصرهم لاتصافه بأفضل الصفات الحميدة حتى اشتهر بينهم باسم الصادق الأمين، وكلما واجهوه ﷺ بروح العناد والجحود والتزمت والإصرار على العالم المتدني الذي يعيشونه بكل تفاصيله الظلامية، كان ﷺ يقابلهم بالصبر وتحمل الأذى النفسي والبدني، وكلما اشتد أذاهم له ﷺ كان يرفع يديه إلى السماء طالبا من الله تعالى الهداية لهم: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».

لقد كانت دعوته ﷺ واضحة وبسيطة لا تعقيد فيها ولا إكراه عليها، دين يحمل من القيم والمضامين ما يمس القلوب والوجدان ويوافق الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، فاستيقظت ضمائرهم من سباتها العميق وتنورت عقولهم بضياء الهدى والتأمل والتدبر في الكون والظواهر الطبيعية فيها والتي تشير كلها إلى الخالق العظيم لهم، فتغيرت دفة الأمور ومجاريها بعد أن صنع منهم شخصيات تقدم العقول بدلا عن الأهواء والشهوات المتفلتة، فأقبلوا على التنافس في ميدان التكامل والفضيلة والعطاء وطلب رفعة الشأن الحقيقية، إنه ﷺ طبيب الروح الدوار بطبه يطلب الشفاء الروحي والأخلاقي لهم من آفات التكبر والعناد وشح النفس والغرور، فيقدم لهم الوصفات الطبية المتضمنة إلى التحلي بالأخلاق الرفيعة كالصدق والأمانة والتعاون والتكاتف، فقد كان جل وقته ﷺ بينهم يبلغهم آيات الله ويجيب عما يدور في خلدهم من أسئلة وينظم أمورهم.