آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 12:09 م

يوم الإعدام «لقاء في الزنزانة»

جلال عبد الناصر *

سارت بي قدماي بتثاقل نحو زنزانته. لقد شعرت حينها بأنّي أغوص في مستنقع من الوحل، ولا أقوى على الحراك. وكلّما تقدّمت أكثر، ازدادت نبضات قلبي واقشعرّ بدني. دسّ الحارس المفتاح في القفل وأداره ثلاث مرات، ثم أزاح المزلاج بقوة. كان ذلك الصوت مرعبًا بحدّ ذاته لي وللسجين، الذي قفز من مكانه ليلتصق بإحدى الزوايا. وراح يتنفّس حينها، حتى خيّل لي بأنّ رئته سوف تنفجر ويلطّخ المكان بالدم. كان ينظر خلفي وكأنه يترقب قدوم أحد. وفجأة راح يقول متلعثمًا: هل ستعدمني؟ أريد أن أودّع ابنتي ”زينب“ أولًا.

تعدمني!!!... زينب!!!... كلمتان ما زال صداهما يتردّد في أذني. لقد بقيت معتكفًا في غرفتي لأسبوع، أعاني من رهبة الموقف وأحاول جاهدًا أن أتجاوز رقّة قلبي الذي خذلني عندما سألني: هل ستعدمني؟ فأجبته بأنّي معالج نفسي، وأنا لا أعدم أحدًا. أنا هنا فقط لأجلس معك. أريد أن أتحدّث معك بخصوص ما سيحدث. ولم تقوَ قدماه على حمله فبدأ يرتعش وخرّ على الأرض. ودخل في نوبة هستيرية وبدأ وكأنه يحاول أن يغوص أو يحفر الأرض. وإذا بالحارس يضع مقعدًا خلفي ويطلب منّي الجلوس.

لقد أنقذني ذلك الحارس، فلولاه ربما سقطت إلى جانب ذلك الرجل الذي بدأ يصرخ: ”زينب“... ”زينب“ سوف يعدمونني! سوف يفصلون رأسي عن جسدي. تمالكت نفسي حينها وحاولت أن أظهر جانبًا من شخصيتي المهنية، فقلت له: حسن... أريد منك أن تسمعني جيّدًا... ابنتك ”زينب“ سوف تكون بأمان وتحت رعاية عائلتك، سوف تهتم بها جيّدًا.

ما يهمني الآن هو أنت... أريدك أن تتحلّى بالشجاعة في الساعات القادمة. فوضع كلتا يديه على رقبته؛ يحميها من السيف. لقد قرأت ذلك في عينيه. لقد خُيّل حينها بأنّ السيّاف على عجالة من أمره، فهو يريد أن يُنهي مهمّته بقطع رأسه ويغرق المكان بالدماء، ثم يذهب إلى زوجته وأولاده. فلا فائدة من وضع يديك على رقبتك الآن.. فالأمر واقع لا محالة.

ثم رحت أقول له من جديد: حسن، سوف تنتقل من هذا العالم وتعيش حياة أخرى، والألم الذي ستعيشه فقط هو الوقت لما قبل لحظة الحاسمة. فنظر إليَّ وراح يقول: أريد أن أموت الآن، لا أريد أن أموت بالسيف، وراح يخنق نفسه ويكتم أنفاسه. لقد تمنّيت أن يموت بالفعل في زنزانته قبل أن يؤخذ لساحة القصاص. فالمنظر لا يحتمل. ثم راح يخبط برأسه على الأرض. لحظتها حتى جدران ذلك السجن العتيق، رفضت أن تشاهد السيّاف مشهرًا سيفه في السماء.

وما هي إلّا دقيقة حتى هدأ ”حسن“ وكأنه يريد أن يعرف أنه مات أم ما زال على قيد الحياة. ولكنّه شعر بالصدمة حينما سمع صوتي البشع من جديد. لقد شعرتُ بأنّي تحولت من معالج يمتهن وظيفة العلاج والتأهيل النفسي، إلى سكرتير في شركة، إلى ذلك الملاك ”عزرائيل“. وبينما ”حسن“ يبرمج نفسه للموت رحت أسأل نفسي: هل من المنطق أن نهيّأ هذا الإنسان تحديدًا للموت؟!... لقد اقترف جريمة بشعة. إنه لا يستحقّ الرحمة أبدًا. فهو مجرم بكلّ المقاييس. ولكن ماذا لو كان هذا الإنسان ولدي أم أخي، هل سأغيّر رأيي؟ ربما، أو حتمًا سأغيّر رأيي وأقول بأنّ الإنسان كائن يرتكب الأخطاء البسيطة والجسيمة وباب التوبة مفتوح ومقبول.

لقد قطع أنين ”حسن“ حديثي الداخلي وأعادني إلى تلك الزنزانة. لقد خُيّل لي بأنّ ذلك الصوت الذي بدأ يخرج من مقدّمة حلقه، بأنه علامات القبول والاستسلام. حينها شعرت بالراحة؛ لأنّي قمت بمهمتي التي كُلّفت بها. ولكنه راح يرسل بعينيه كلمات يقول فيها، بأنه لا يقوى على الوقوف في ساحة القصاص. ويريد منّي أن أنهيَ حياته بطعنة في القلب بقلمي الفضي، أو أن أخنقه بربطة عنقي السوداء.

لقد ترك ”حسن“ أشياء كثيرة كالألم والعبرة والعظة وسلسلة من الكوابيس لا تنتهي. فالقصة معه لم تنتهِ سريعًا، فلقد طلب منّي أن أكون إلى جانبه خلال الطريق للقاء السيّاف.

اختصاصي نفسي في مجمع إرادة للصحة النفسية بالدمام