آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 5:05 م

يوم الإعدام «ساحة القصاص»

جلال عبد الناصر *

نظرت لساعتي التي كانت تشير إلى التاسعة والنصف صباحًا. وحسب ما عرفت بأنّ ساعة الإعدام ستكون في الساعة العاشرة والنصف. هممت بنفسي وخرجت عبر البوابة الرئيسة لأستنشق هواءً نقيًّا غير ملبّد بالهموم. إلّا إني وجدت زوجة ”حسن“ تخبّئ رأسها في صدر أحدهم وتلفّ كلتا يديها حول خصره. وقد سقط وشاحها من على رأسها. لقد كان ذلك الرجل يمسح على ظهرها ويطبع على رأسها قبلات يسمعها من يقف خلف المبنى أيضًا. وبرغم الألم الذي كان ينعكس من ذلك المشهد، إلّا أنّ أشعة الشمس الحارقة أظهرت سحر وجمال تلك المرأة التي قد تتحول إلى أرملة بعد لحظات.

وما هي إلّا دقيقة حتى فتح الباب من خلفي. وإذا باثنين من الحراس يتوسّطهم ”حسن“ الذي لم يكن يملك القدرة على المشي لولا أنّ الحارسين كان يرفعانه كلّما أوشك على السقوط. لقد كان رأسه يميل نحو الخلف وفمه مفتوحًا وقد كان يتأوه ويئنّ وصوت القيود في قدميه تعزف لحن الموت. استدارت زوجته تنظر إليه، وفجأة فقدت وعيها وكادت أن تسقط على الأرض، إلّا أنّ الرجل الذي كان يحتضنها قد أمسكها. وفجأة تقدّم الباص المعتم الذي ملأ المكان بدخان الكيروسين الخانق. وفتح بابه وتقدّم الحارسان وهما يحاولان رفع ”حسن“ عن الأرض ومساعدته على الركوب.

وقبل ذلك كنت أعتقد بأنّ ”حسن“ قد دخل في نوبة هذيان ولم يعد يدرك ما يدور حوله. ولكنه توقف عند بوابة الباص وأظهر مقاومة عنيفة، فلقد كان يحاول التراجع وكان يشير برأسه وكأنه يقول: ”لن أصعد“. هنا حاولت أقوم بأيّ دور يبرّر وجودي في ذلك اليوم المعتم. اقتربت من ”حسن“ ورحت أقول بصوت هادئ: اهدأ يا ”حسن“... فأنت تملك الرغبة في أن تنهي الأمر. حاول أن تصعد الباص الآن، لا تطل عليك الأمر. وما إن شعر الحارسان بتجاوب ”حسن“، حتى قاما برفعه عن الأرض وإدخاله في الباص. وأشار لي الحارس بالدخول في الباص لمرافقة ”حسن“، وحين لاحظ امتعاضي راح يقول بصوت يحمل في ثناياه الرحمة: أرجوك، رافقه، ربما يسمع منك شيئًا يساعده على الراحة. ورحت أقول في نفسي: وماذا تريديني أن أقول له؟!... هل أقول له دع النصل يداعب عنقك؟!... أم أقول له: بأنّ الأمر بسيط، فمجرّد أن تجثوَ على ركبتيك سوف يطير رأسك في الهواء وينتهي العذاب؟!

وبالرغم من ذلك وجدت نفسي أجلس بجانب ”حسن“ بصحبة فرقة الإعدام حيث بدأ المشهد بالنسبة لي وكأننا دخلنا في كهف معتم وقد أقفل علينا بصخرة. فالنوافذ قد صبغت باللون الأسود وقد غطّيت بشبك حديدي. وهناك راودتني فكرة هوليودية، فماذا لو أنّ أحد الحراس كتّفني والآخر وخزني بإبرة مخدّرة، ثم قاما بتبديل القاتل بالمعالج. رحت أطرد الفكرة وأستدير لـ ”حسن“ أقول له: أعلم أنك نادم، ولكن شاءت الأقدار بأن ينتهي الأمر بهذا الشكل، ولذا عليك أن تكون شجاعًا. ولحظة الموت ستكون سريعة جدًّا. وهنا قطع حديثي صوت الحارس الذي راح يقول بصوت جهوري: تشهّد يا ولدي، وراح يتلو بعض الآيات. وما هي إلّا دقيقة حتى توقف الباص. أطفأ السائق المحرك حتى ظهر صوت جلبة الجمهور الذي احتشد ليشاهد قطع رأس ”حسن“.

نهض أحد الحراس ليسحب الباب بذراعه القوية داعيًا ضوء الشمس للدخول. ورحت أسترق النظر وشاهدت توافد الناس وهي تبحث عن زاوية جيّدة تمكنهم من رؤية المشهد بوضوح. ثم صعد أحد الحراس واتجه نحو ”حسن“ الذي تصلّب تمامًا. وإذا بالحارس الوافد علينا يقول له: هيّا يا ولدي، لقد صلّيت وقرأت ما تيسّر وحان الوقت لأن تتشهّد. وفجأة تعالت صوت تهاليل من كلّ حدب وصوب. وقفز أحد الحراس من الباص قائلًا: تنازل أهل الدم!!... ورحت أراقب ”حسن“ إلّا أنه لم يحرّك ساكنًا وكأنه لم يسمع أيّ شيء. وإذا بالحارس الذي قفز ونسج الأمل لثوانٍ عاد ليقول: أنزلوا الرجل. رفعت رأسي ورحت أمسح على ظهر ”حسن“ وراحت عيني تتأمل في عنقه. ونهض بمساعدة الحراس الذين اقتادوه نحو مكان محدّد. حينها لم يقاوم ”حسن“ وتوجه بكلّ انصياع، وكلّما تقدم الوقت ازدحم المكان بالناس وتعالت الأصوات التي تمنح الأمل وتطلب أهل الدم بالعفو.

ولكنّي لم أمتلك الشجاعة على النزول، فهذا ضرب من الجنون. ففضّلت البقاء أسترق النظر عبر الباب، فرأيت الشيخ يتحدث إلى أهل الدم. ثم دفعت برأسي قليلًا وإذا بـ ”حسن“ ما زال جاثيًا على ركبتيه. وفجأة استدار الشيخ تاركًا أهل الدم خلفه وتوجه نحو رجل ليتحدّث إليه. وإذا بذلك الرجل يتوجه نحو سيارته ويفتح الباب الخلفي ويمدّ يده للداخل ويحاول سحب شيءٍ ما. وما هي إلّا ثوانٍ حتى أخرج السيف من غمده. أمسكه بيمينه ولمحته يحرك شفتيه وكأنه يتلو ويبسمل. وراح يقترب من ”حسن“. هنا رميت بنفسي على أحد المقاعد. ولم أعد أشاهد شيئًا غير المقاعد التي جلس عليها الكثير ممن قطعت رقابهم.

وضعت كلتا راحة يديّ على أذني محاولًا منع أذني من سماع ما يدور في الخارج. لم يكن مجرّد يوم شاق وعصيب. لقد لعنت اللحظة التي تم تكليفي فيها لأن أكون في الموقع ورحت أردّد بحرقة: لماذا يا ”حسن“؟... لماذا رميت بالرجل؟ لماذا لم تسيطر على نفسك في لحظة الغضب؟ لقد تعمّدت أن ترمي به في حفرة الورشة... وهذا هو قد رماك في ساحة القصاص. وفجأة دخل الحارس وأقفل الباب خلفه. وأدار السائق مفتاحه ليتحرك الباص وكأنه عجوز طاعن في السنّ. نظرت إلى المقعد الذي كان ”حسن“ يجلس عليه، وخطر في قلبي اسم ”زينب“... هذا المقعد سوف يحمل رائحة والدك للأبد".

اختصاصي نفسي في مجمع إرادة للصحة النفسية بالدمام