آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

تاروت والبحث عن الحلم المفقود

عبد العظيم شلي

يا أيها الحلم المتلألئ دثرنا بفرح يعانق السحاب، ويا موسم الربيع انثر الورد على محيا الشباب.

وصلتني دعوة كريمة من إدارة نادي الهدى الموقرة، لحضور فرحة شباب تاروت التي طال انتظارها، قلبت كلمات الدعوة عبر الواتس كمن يقلب جائزة نفيسة، رسالة ناطقة بالفرح المتجلي كشموخ نخل باسق وقت الربيع، يا لها من دعوة باهرة، هدية غالية، سوف أترك كل مشاغلي وجميع ارتباطاتي من أجل حضور الحفل المرتقب ومشاركة عرس الأعراس.

وصلت لعين المكان مذهولا مندهشا، غير مصدق عينيي، لحقيقة ما أرى، يكاد قلبي من الفرح أن يخرج من صدري، بنبض الحب قابضا على الأكف ”كفوا عليكم يا أبطال، أنتم قول وفعل“ نعم وألف نعم لقد فعلها المكافحون، وترجمها المخلصون، أخيرا يا هدى تهدي لأبناء تاروت مقرك النموذجي الجديد، بناء عصري، لمنشأة رياضية متكاملة تبهج العين وتسر الخاطر.

وعلى عتبات البوابة الضخمة الملونة باللونين البنفسجي والوردي، أخذنا رئيس النادي السيد ”وصفي البصارة“ في جولة على أقسام النادي ومحتوياته، يدلف بنا من حجرة إلى أخرى، ويرينا الصالات الرياضية وحوض السباحة، يشرح هذا ويفصل في ذاك، مزهوا بهذا الإنجاز والإدارة الموقرة معه، تأتي التعليقات خفيفة الظل من وجوه الطيبة، لشخصيات من البلد شبه متوارية عن الأنظار، اتت ولبت الدعوة، وأعيان ووجهاء كبار في السن، هم رياضيو ومشجعو الأمس أصبحوا شيوخا، تعنوا ليشاركوا أبناؤهم هذه الفرحة المجتمعية العارمة.

تنبهت إلى اثنين من رجال الرعيل الأول لأندية تاروت القديمة الحاج أبو زكي شاه عدنان آل درويش، وأبو محمد الحاج عبدالله حليل وهما آخر اثنين من لاعبي النجم «1955-1962» على قيد الحياة وبجاورهما الحاج عبد النبي الطويل والحاج حسن عبد العال العقيلي حارسا نادي الوحدة «المنار -1962-1969» وزميلهما قلب الدفاع علي أكبر العرادي، بملء القلب لكم يا كرام طول عمر بصحة مديدة، داعبتهما بمحبة ومعزة قائلا: كم هدف عانق شباككما؟ ضحكوا وفتحوا فلاش ذكرى: ”في العادة إذا لعبنا على ساحتنا دائما الفوز حليفنا، فأرض المحيسنيات بريكة علينا لم نخيب أبدا جماهيرنا الزاحفة من فريق الأطرش والخارجية، وأرض الجبل والدشة والديرة والوقف“.

قلت للاعبي النجم أبو زكي شاه وأحمد حليل من هو أفضل لاعب في زمانكم، قالا وبحماس: «ما غيره عبد الرحيم البصري البطل، لاعب خطير إذا مسك الكرة عند خط 18 يا جول يا بلنتي»، رددت عليهما تأكيدا على كلامهما بأني سمعت هذا الوصف كثيرا وآخر مرة على لسان الحاج أبو عبد الخالق عليوات قلب دفاع هلال سنابس، يقول لي: «عبد الرحيم البصري، اوووه، في زمانه افضل لاعب أنجبته جزيرة تاروت، مراوغ وفنان ما في مباراة يلعبها لازم يسجل گول تقول ارجوله تندل الجول، أتذكر لعبت معاه مرة وحدة حين استعان النجم بي لتأمين دفاع الفريق في مباراة حماسية ضد فريق أم الحمام على ساحة عنك وأخذنا الكأس، وفي المنار شفت اللاعب عبد الرسول عبدالله المهدي جناح سريع زي الطيارة ورفعاته خطيرة، والثاني افضل مراوغ مر في جزيرة تاروت ما في مثله عبدالله حسن منصور، مشكلته يلعب حافي القدمين» - د. عبدالله العبدالمحسن - وبينما نجول عبر ممرات النادي علق عبدالرسول حليل «كلام أبو عبد الخالق صحيح، لو في كامرات فيديو سجلت فنيات لاعبين الأول، ما تصدق بأن هذولا لاعبين لعبوا قبل 66 سنة».

جموع تهب وروائح بخور تعبق بردهات المقر الجديد، حتى وصلنا لصالة المسرح، الفينا المدرجات غاصة بالحضور وقسم جانبي ممتلئ بالسيدات وفتيات وأولاد صغار، وصحفيات تصور وتجري عدة مقابلات، جلسنا وأنغام الفرح تفيض على الوجوه ألقا وحسنا، توالت الكلمات من لدن أعضاء مجلس الإدارة ومن أعيان البلد. حينها لمحت في الصف الأمامي شخصيات داعمة للنادي ماديا ومعنويا، ولها تاريخ حافل في مسيرة الهدى، من ضمنهم الحاج أحمد منصور الصادق أبو ناصر، والحاج عبد الباقي عبدالكاظم البصارة، والمهندس عبدالشهيد محمد السني، والأستاذ سيد محمد علوي الدعلوج أبو رائد، والمهندس عبد اللطيف الرويعي وعلي حبيب المختار، وعلى جانب المسرح رأيت المهندسان جاسم سهوان وجاسم الصايغ والأساتذة عبدالله علي حسين يجاوره علي مضحي وأحمد سليس أبو محمود، وعبد المحسن الصادق وزكي محمد حسين ود. عبدالله حسن منصور وأولاده، وحبيب حمود، ورمقت المهندس سلمان العرادي يتحدث مع الأخ محمد معتوق الخياط اللذان لم يكفان عن الإشارة والكلام، وباسم حمود وأمين ابوسرير يبتسمان وبينهما الكابتن سعيد محمد حسين وعبدالحسين زمزم وأخوته عباس وعبدالرسول وعبدالعزيز ومهدي مسيري وأحمد داوود وعبد الصمد جابر حماد، يصفقون بحرارة، وعبر المايكرفون تشنف آذاننا كلمات تفيض بالفخر وتقديم آيات الشكر لكل من وقف وساند في تحصيل النادي على أرضه التي بنى عليها مقره الجديد، وتتابعت التهنئات والتكريمات لرجالات الأمس ورؤساء الهدى السابقين وقد ناب عن الراحلين ابناؤهم!.

الله الله تنطقها الألسن إعجابا على إعجاب، محيا الحضور مرايا محبة وفرح، يا سلام ما أجمل الوفاء، ما أروع صور الاحتفاء وسام على الصدور.

صوت عريف الحفل الأستاد علي القديحي يشنف الأذان، ينادي بأعلى صوته: " شكرا.. شكرا لكم يالاعبي النجم ولاعبي الخليج والوحدة والمنار والنصر والنسر والهدى الذي لعبتم طوال 75 سنة في هذا المكان الذين نحن فيه وهي أرض المحيسنيات، أحسنتم فعلا حين سورتم ملعبي كرة القدم وملعب كرة الطائرة ووضعتم العلامات التي حددت المساحة التي ظفرنا بها، شكرا لكم من أعماق القلب بأنكم تجشمتم العناء ورفعتم الأوراق للبلدية ورعاية الشباب منذ زمن بعيد لاعتماد هذه الأرض ملك لشباب نادي الهدى بتاروت التي بنينا عليها مقرنا الجديد الذي نتنعم به، منشئة فخر لنا ولأجيالنا القادمة.

حينها همست للأخوة حسين قيس ومحمد الصغير، واحد كان عن يميني والثاني عن يساري قائلا لهما: أظن لم يلعب فريق النسر على أرض المحسنيات لأن ملعبه بمحاذاة الجدار الجنوبي لمدرسة تاروت المتوسطة ولا نادي الخليج وهو الآخر ملعبه على مقربة من البحر عند مطار الرفيعة المعروف بمطار دارين، رد الصغير: ”نعم لعبوا لكن بعد دمج النجم مع الخليج 1962 والنسر والنصر 1972م“ وأوضح حسين قيس: ”نعم بعد الدمج الكل لعب هنا، في برية لمحسنيات وخصوصا الملعب الرئيسي بشبكاته جنوب شمال، الذي أسسه نادي النجم سنة 1955 م وملعب آخر جنوبيه، وشبكاته شرق غرب وصار ملعب لنادي النصر 1968م. وهو في الأساس كان ملعب رديف لنادي النجم“.

التفت إلينا الرسام واللاعب السابق عباس علي حسين، مؤكدا صحة كلام قيس ومضيفا بأن ملعب الطائرة أسسه نادي النجم 1960م الذي تحول للمنار فيما بعد ".

ومع تداعي أحاديثنا الشيقة واستدعاء الذكريات الغالية على نفوس المحبين، حان وقت تقديم فيلم وثائقي عن ملاعب المحيسنيات كيف كانت عبر صور فوتوغرافية للاعبي أندية تاروت القديمة، وكيف أصبح المكان اليوم.

رفعنا الأيد والأكف تلويحات حب وسلام، وللعرض الرياضي الممتع، رفرفت فيه رايات الوطن خفاقة، ضجت الصالة بالصفير والهتاف ”يالورديييييي ياقلبيييي“ منبعثة من حناجر لاعبي العقود السبع الماضية ولاعبي الحاضر، الجيل الواعد، زعيق وصخب إثر فرحة عارمة لآباء وأبناء وبنات تاروت، توحدت الأعمار في لحظة زمنية نادرة الحدوث، كل نسي ذاته، وكأن ذوات الحاضرين صارت ذات واحدة.

وقبل نهاية الحفل بقليل وزعت علينا أعلام صغيرة مقسمة بين لونين وردي وبنفسجي، أخذت علما، ووضعته على وجهي لاقبل الراية امتنانا لجهود أجيال وأجيال أفنت العمر في خدمة أندية تاروت وقلت ها هو الحلم قد تحقق.

فجأة صحيت من النوم رافعا عني رداء السرير، ارتعش جسمي، شهقت حسرة، رمشت عيني مرات ومرات، أحسست بأن نسمة حارة صفعت وجهي برغم برودة الغرفة، جلست على السرير واضعا رأسي على ركبتي ورحت أجهش في البكاء! ورددت مع العندليب والدمع يسيل على الخدود مثل طفل بائس سرقت منه ألعابه: "لو كان دا حلم يا ريته يطول“!

يا أيها الأمل الذي يقرب حينا، ويبعد مسافات، متى نعانق الفرح؟ على مدى 50 سنة من إدارات نادي الهدى المتعاقبة، كل إدارة تأتي لتبشرنا بقرب امتلاك النادي أرضا في مكان ما، فجأة يتبدد الحلم، كم ضاعت أرضا هنا، وهناك بعراقيل قاهرة وأخرى خارجة عن إرادة الجميع، تلك بعيدة، وهذه تقع ضمن أملاك خاصة، كم وكم استحلت ”أراض رحمانية“ صبت في جيوب الشرهين من أهل العقار الذين استولوا على كل شيء، من أجل بناء صناديق أسمنتية، ولم يتكرم أحد منهم بالتبرع للنفع العام.

حاليا توجد أرض باسم نادي الهدى في منطقة ”النيو بيش“ لكنها لم تزل معلقة، متى يأتي الفتح المبين لها، هل تبقى إلى أجل غير مسمى، مجرد مخطط على الورق!.

في مكان ما على تراب جزيرة تاروت أرض تسمى المحسنيات مرتع لأندية تاروت القديمة، كلما مررت عليها وهي فارغة إلا من الذكرى، التي تقع مباشرة شرق شرطة تاروت مباشرة، أصاب بالضيق والتبرم والحسرة، أحيانا انظر إليها بألم، وأتساءل كيف ضاعت هذه الأرض، وتلاشت من كل الأيدي، وكأنها حجبت عن العيون، كان بالإمكان أن لا تضيع لو ثمة نبيه انتبه إليها، وسجلها باسم الهدى. كان الجو ملائما زمن السبعينيات، وحتى بداية الثمانينيات للمطالبة بها كما فعل أصحاب مزارع بجوارها اقتنصوا ما طاب لهم من الأرض، وأضحت بأسمائهم، وبالمثل حصل مع أكثر من ناد لأندية مناطق القطيف فطنوا لتسجيل أمكنة توارثوها لعبا، وأصبحت ملكا لمقراتهم مزينة بملاعب عصرية.

آآه ثم آآه أيها الحظ العنيد إلى متى نكون معلقين بالأمل، أرفق بالحالمين وحقق لهم حلم طال انتظاره.

أنفاس مختلطة بين الغبطة والحسرة وبين ضياع فرص ومحاولات خلقها من جديد، وبين التنهد والرجاء، من يبحث عن حلم تاروت المفقود؟