آخر تحديث: 30 / 4 / 2024م - 1:07 م

متلازمة العبد والسيد

عبد الغفور الدبيسي

تحتل مقولة أن «العميل أولا» مكانة مركزية في بيئة الأعمال والسوق المفتوحة القائمة على المنافسة. وتحتل أيضا مكانا مرموقا في النظريات الإدارية على اعتبارها محرك النجاح وسبب التطور ولن نسهب أكثر من ذلك فهو أمر نسمعه يتكرر كل يوم تقريبا. هذه العقلية وهذا التنظير بدأ وتعزز في بيئات مختلفة عن بيئتنا. لا أدري كيف كان تقبل المجتمع لها عندما بدأت مع صعود الرأسمالية وحركة الأسواق الحرة في تلك المجتمعات، ولكنك ترى اليوم سلوكا راسخا تلمسه بسهولة وأنت تتعامل مع التاجر سواء في سوق البضائع الشخصية أم التعاملات التجارية بين الشركات سواء كنت مشتريا لمنتج أم خدمة. تلمس بوضوح الاهتمام الخاص الذي تتلقاه كعميل محتمل أو عميل فعلي من موظفي المحل أو الشركة. في تلك البيئة لا يعني اهتمامهم بك وتوددهم لك أنك أعلى رتبة أو أفضل منهم ولكن الغرض واضح وهو أنك مصدر رزقهم في النهاية. والعميل يفهم ذلك فلا يحس بأي تعال عندما يتوددون له ويعلم أن ذلك لا يمنحه إذنا بالاساءة إليهم أو احتقارهم. لقد نمت الثقافة هناك بشكل متوازن فأصبحت في العلاقة بين الطرفين أريحية إلى حد كبير في أغلب التعاملات. إذا قصر مقدم السلعة أو الخدمة أو تباطأ تحمله العميل وتفهمه كما يتفهم أي زميل له، وإذا أخطأ العميل بحق التاجر أو مقدم الخدمة تغافل عن ذلك وركز على كسب وده ونقوده.

لا شك أن ثقافة العميل أولا جديدة وطارئة علينا نحن العرب على الأقل باسلوبها المستخدم في البيئات الأخرى. عندما نتأمل في تعامل الجهات المختلفة مع زبائنها، عندما نستمع إلى تجارب الآخرين في هذه التعاملات، عندما نستمع إلى مكالمات ومشاجرات الزبائن مع مقدمي الخدمات على الهاتف، عندما نتأمل في كيفية تعامل موظفي القطاع العام «بلديات، مستشفيات، جهات حكومية أخرى»، وحتى عندما نتأمل في طريقة تعامل موظفي المبيعات في القطاع الخاص وخاصة السعوديين منهم، ندرك أن هناك جوا مختلفا، هناك افتراضات مختلفة تحكم هذا التعامل وتؤثر في مساره. في تحليلي، أن ثقافة الآمر والمأمور، العبد والسيد، الأعلى والأدنى تتمتع بمساحة كبيرة من وعينا ولاوعينا بحيث نرتب الناس بسرعة في أي تعامل بهذه التراتبية ونتصرف على أساسها. أنا أسمي هذه «متلازمة العبد والسيد».

بائع السلعة أو مقدم الخدمة يشعر بحساسية عالية تجاه زبونه الذي «يأمر عليه» فينفعل بسرعة وينفذ صبره مطيحا بفكرة «الزبون أولا أو المواطن أولا» التي يسمعها نظريا من رؤسائه. في تلك اللحظة فإن «متلازمة العبد والسيد» تكون أقوى تأثيرا من «الزبون أولا». ”من أنت حتى تقول لي ذلك؟ عمرك ما اشتريت“. حتى كلمات المجاملة للزبون «شكرا... سعدنا بخدمتك» تخرج ثقيلة باهتة وأحيانا كثيرة لا تخرج أبدا لأنها تشي بنوع من التفضل من الزبون على البائع. بل إن هناك حالات كثيرة يأتي الشكر من الزبون دون جواب من البائع.

في المقابل يتعامل الزبون مع البائع أو مقدم الخدمة كأنه عبد له. يأمره ويرفع صوته ويمعن في التدقيق والتفصيل بتعال واضح «أنا جاي بفلوسي». يشعر في لاوعيه أن هذا البائع أو مقدم الخدمة مسخر له يجب عليه أن يسمع ويستجيب. لا بد ان أشير إلا ان عاملا آخر دخل علينا هنا وقوّى من هذه النزعة وأقصد في المملكة ودول الخليج عموما وهو كون مقدم الخدمة والبائع من الوافدين بشكل عزز الفكرة الخاطئة بالفوقية أو متلازمة العبد والسيد. والكثير منا استمع في حياته إلى نوع من هذه الحوارات المقززة التي قد تصل أحيانا إلى الشتم والسب خاصة في مقدمي الخدمات الدنيا «النظافة، السائقين، الحمالين...». في مثل هذه الأجواء وبعقليات كهذه لا يمكن أن يصمد مبدأ «الزبون أولا» المبدأ الذي يراد له أن يحقق مصلحة الطرفين في جو آمن وودي بل تتحول العلاقة إلى توتر وكره واحتقار. بل يمكن القول أن هذه العقلية تمنع من بناء علاقة سليمة أحيانا حتى لو أراد أحد الطرفين ذلك لأن هناك حكم مسبق بفساد نوايا الطرف الآخر وهو ما يشكل إحباطا وصدمة لمن يود أن يتعامل بحسن نية واحترام. وكم سمعنا «انت غلطان..هذا العامل..هذه الجنسية ما ينفع ليها إلا العين الحمراء.. إذا عاملته باحترام يقلب عليك. دوس عليه»

رأيت هذه العلاقة الفاسدة تنتقل من مستوى الأفراد إلى مستوى الشركات. العلاقة مع المقاول أو المورد لا تخرج عن هذه المتلازمة في ثقافتنا. لا ينظر صاحب الشركة أو ممثل الشركة أو الموظف في الشركة بندية في العلاقة مع المقاول أو موظف المقاول بل يراه دونا منه وعليه أن يسمع ويستجيب. ورأيت مثل هذا التعامل يولّد في المقاول الرغبة في الإضرار بمصلحة الشركة في أقرب فرصة يتمكن فيها. عندما أتيحت لي الفرصة أن أعمل خارج المملكة ورأيت تعامل بعض الشركات المشغلة مع مقاوليها لفت نظري الأريحية في العلاقة والثقة المتبادلة وتشارك المعلومات بشكل لم أره هنا. إنهم هناك شركاء فعلا.

أردت أن أضيئ على هذا العامل الثقافي في تقويض مبدأ «الزبون أولا» كما رأيته ولا أزعم أن كل تعامل بين بائع ومشتري لدينا هو من هذا النوع بل نرى هناك تعاملات سليمة كثيرة تشهد على رقي طرفيها وفهمهم للعلاقة السليمة بين البائع والمشتري ووعيهم لهذا العامل الثقافي واستبعاده.