«3» مكانة الفلسفة
عدا البحوث الفلسفية، لاحظت ايضا تزايد الاهتمام بعلم الاجتماع بين المشتغلين بالعلوم الدينية. تساعد البحوث الاجتماعية على فهم افضل لمبررات السلوك الجمعي وبواعثه، وبالتالي دور الافكار في توجيه هذا السلوك. وهو من المجالات الهامة التي ينبغي استيعابها بالتوازي مع التفكير في النظريات الدينية.
هناك ميل عام الى التقنيات، اي خلاصات العلوم القابلة للتطبيق المباشر على وقائع حياتية. تستهدف التقنيات تقديم اجوبة نهائية عن قضايا واسئلة محددة. اما العلم فهدفه مختلف، ويتلخص في توسيع الافاق وكشفها، وفتح ابواب جديدة لعمل العقل. ولهذا فهو لا يقدم أجوبة بل يثير المزيد من الاسئلة. وقد شرحت في مكان آخر شيئا من نظرية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، وخلاصتها ان البحث العلمي لا يقدم حلولا حقيقية «اي نهائية» للمعضلات، بل يقترح احتمالات جديدة، تسمح باعادة التفكير في المسألة من زوايا مختلفة. بعبارة اخرى فان البحث العلمي يعيد صياغة السؤال او يقترح سؤالا جديدا، بناء على ما يظهره من احتمالات لم تظهر قبلئذ.
اظن ان هذا القدر من الشرح يوضح مهمة الفلسفة وطبيعة الدرس الفلسفي. فغرضه ليس تقديم اجوبة بقدر تفصيح الاسئلة، وفتح آفاق العقل وتوسعة مجالات البحث والتفكير أمامه. لهذا السبب قيل ان الفلسفة هي أم العلوم. لأن تطور العلوم ثمرة لاتساع التفكير العلمي والنشاط العقلي. الفلسفة تقدم المنهج وتمهد الطريق لجعل التفكير ادق في الاستهداف وأبعد عن الفوضى والشتات.
لأن الفلسفة غير معنية بتقديم الأجوبة، فهي بالضرورة غير مرتبطة بالقضايا الحياتية التي يواجهها الناس في يومياتهم. ولهذا يراها الناس بعيدة عن مجالات انشغالهم وهمومهم. وهذا صحيح. واقع الأمر ان النقاش الفلسفي شغل النخبة من أهل العلم. وأذكر اني رغبت يوما في الانضمام الى درس يومي في المقدمات الفلسفية للعقائد، كان يلقيه احد العلماء في حي الامين بدمشق، ولا أذكر اسمه الآن، لكن لعله المرحوم الشيخ محمد باقر حكمت. فحضرت وقت الدرس، وكان ذلك في العام 1983 او حواليه. فأخذني الشيخ الى جانبه ونصحني بعدم الانضمام الى الدرس ”لاننا ندرس كفريات“ كما قال. وأشار الى صغر سني يومئذ وعدم قدرتي على الاستمرار فترة طويلة.
زبدة القول ان الفلسفة ضرورية جدا، لكنها ليست معنية بتقديم اجوبة على اسئلة الحياة اليومية، فهي تبحث في القضايا الكلية المتعلقة بالوجود والكون والعقل. ودروها هو تنشيط وتحفيز الفكر وليس ايصاله الى نتائج محددة.
يؤدي انتشار العلم والفلسفة الى تعميق الثقافة العامة، واخراجها من حالة البساطة والانطباعية الى حالة التركيب والتعقيد. وينعكس هذا على تفكير الافراد في أمورهم العادية ورؤيتهم للحياة والعالم واهتماماتهم. ونتيجة لهذا يرتفع مستوى التعليم والنقاش العام، ويميل الافراد الى التفكير العميق في الاشياء والاهتمام بالاستدلال والربط المنطقي بين المقدمات والنتائج، بدل اتخاذ مواقف سريعة او انطباعية او انفعالية.
ليس من الصدف ان يكون المجتمع الالماني رائدا في ابتكار التقنيات الجديدة، سيما خلال النصف الاول من القرن العشرين. كانت ألمانيا في تلك الحقبة وقبلها موطن الفلسفة، فأصبحت - تبعا لهذا - موطن الفكر والعلم، واليها يرجع عدد ملحوظ من ابرز العلماء الذين عرفهم العالم الحديث مثل اينشتاين، كارل ماركس، ايمانويل كانت، ماكس فيبر.. الخ.
زبدة القول ان كل مجتمع محتاج الى الفلسفة، لأنه يحتاج الى التفكير العلمي. البحث الفلسفي قد يكون شغل النخبة لكن ثماره وفوائدة سوف لن تبقى محصورة هنا، فهي تنتشر في سياق التبادلات الاجتماعية العادية، فتغني الثقافة والتعليم والتفكير الفردي والجمعي.