آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

بين يدي الإمام العسكري (ع)

شخصية الإمام العسكري العظيمة والتي أخذت مأخذها من التألق والجاذبية والمحبوبية في قلوب الناس، لم تكن بالحدث العابر الذي يمكن للسلطة الغاشمة أن تمر عليها مرور الكرام أو تغفل عن بعدها التأثيري، فقد كان الحاكم يضع بالحسبان قدرة الإمام على توجيه الناس نحو فكر تنويري يكتنف الرشد والوعي وسلوك يتميز بالاستقامة، وهذا بالطبع ما يشكل خطرا داهما على سوقه الناس كالعبيد وخروجا عن يد الطاعة الاستبدادية، وهذا ما جعل السلطة تفكر مليا في قطع حبل التواصل والتواجد بين يدي منبر ومجلس الإمام ، فاختارت السلطة أن تسير بسيرة البطش والتنكيل والعدوان تجاه الإمام من خلال فرض الإقامة الجبرية عليه والحد من تحركاته واتصالاته، وإحكام طوق الرقابة والتجسس عليه ممن ينقل لهم حرفيا وتفصيليا همسات وكلمات الإمام، فهل اكتفت السلطة بهذا القدر المتعجرف الجائر بحق الإمام أم أنها اتجهت نحو التصعيد؟

هذه الخطوة الظالمة وإن حدت كثيرا من حركة الإمام ولقاءاته المباشرة مع الناس، إلا أنها كانت محدودة التأثير في قطع علائق المحبة للإمام، فقد اعتمد الإمام العسكري - أمام هذا التضييق عليه - على إيصال رسالته وتوجيهاته، من خلال وكلائه العارفين بدقائق الأمور والمتميزين بإدارة كفوءة في البحث والبت بمشاكل الناس واحتياجتهم، واستطاع نظام الوكلاء سد الفراغ الكبير لتغييب الإمام وحبسه في بيته، وبقيت الألسن تلهج بحكمه وأجوبته وإرشاداته، وما زالت الأفئدة تنبض بالمحبة والإجلال لشخصية عظيمة لا تنطوي صفحة من صحائف الأيام، إلا وأنبأت عن معرفة ومنهجية تهذيبية للأمة.

ولذا لم تجد السلطة بدا وحتمية من معالجة هذا الأمر إلا بالتصعيد والتنكيل بالإمام، من خلال تغييبه خلف قضبان السجون، لعلها بهذا الفعل الشنيع تحظى ببغيتها الشيطانية وهي إطفاء نور الله عز وجل المتمثل بعطايا وإضاءات الإمام العسكري ، ولكن هيهات أن يخمد قبس سراج العلم والحكمة والأخلاق الرفيعة، بل انقلب السحر على الساحر، فقد تحول سجن الإمام العسكري إلى منارة معارف وتزكية نفوس، فهيبة الإمام وجلالة سيرته في التعامل مع الغير، وجدت لها صدى طيبا في نفوس مبتلاة بالغفلة والكراهية، ولا أدل على ذلك من أن سجان الإمام المأمور بحبسه والتضييق عليه ومعاملته معاملة جافة قاسية، قد استنار بهدي الإمام العسكري وأصبح لسان ثناء ومدح لعظمة الإمام بعد خروجه من الحبس، وهذه الجاذبية والهيبة لشخصية الإمام هي انعكاس لانقطاعه إلى الله تعالى وأنسه بذكره الدائم، فهذه الدنيا لم تكن للإمام إلا مطية زمنية يقطع بين مراحلها تنوعا عباديا بين تلاوة القرآن والمناجاة والذكر والوقوف بين يديه عز وجل، فاكتسى محياه بنور الورع والزهد والخشية من الله، فكان خير دليل وعلم يتوجه الناس للأخذ بسيرته وتوجيهه.

وكثيرة هي الروايات الشريفة المتضمنة لتوجيهات الإمام العسكري ومعارفه الجمة وأجوبته الشريفة، والتي ينقلها ابن عمه أبو هاشم الجعفري والذي كان من خاصته وسجن معه، لتعرفنا بأن ما أراده الظلمة من حبس الإمام والتضييق عليه، من انكسار نفسه وإصابته بالإحباط من جهة، ومحو وجوده الخالد من ذاكرة الناس وفكرهم المتعلق به، قد خيب الله آمالهم بانعقاده وفرضه ولم يكن له أي وجود، بل حل نور الله تعالى وعم ضياؤه في الوجدان، من خلال تحويل الإمام العسكري لقضبان السجن إلى مدرسة معرفية وتهذيبية يكتسب فيها من حوله وينهلون من علمه، وتطيب نفوسهم وتتحلى بأعلى درجات التكامل والفضيلة، وهم يرون سيرة الإمام ماثلة بين أعينهم يتبصرو من خلاله مفاهيم وقيم الدين الحنيف.