آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

الغرق شعرا

علي فؤاد الحواج

حين تتآمر مياه المحيطات كافةً على جسد الغريق المسكين، فإنّ أول ما يُفعّل في جسمه تلقائيا الجهاز العصبي الذاتي. لهذا الجهاز شِقان وظيفيان أساسيان مِن الأعصاب يضادّ أحدهما الآخر غالبا. فشقٌّ غايته تسخير أعضاء الجسم لجهوزيةٍ تامة وقت الشدة كالقتال أو الهروب، والآخر يسْلمها إلى السكون والراحة كالأكل والنوم. كل ذلك عن طريق التحكم بكمية الدم المتدفق إلى أجزائه، وضبط سرعة التنفس وضربات القلب وغيرها.

في حال الغرق، يهيمن جزء الجهاز العصبي السمبثاوي بغية النجاة، لذا نرى الغريق بحال اضطراب وتخبط شديدين ظاهرا وباطنا. ولما كان للوضع من هول وجزع، فإن تراكيب عصبية أخرى، أهمها اللوزة في الدماغ، تطلق صفارات إنذار لتبعث بشعور الخوف إلى الوعي الحاضر. عند هذه النقطة الحرجة تسقط الاعتبارات للناس والأشياء، ونرى هذه الصورة الجمالية في قصيدة للشاعر الجواهري بعنوان «طال ليلي»، يقول فيها واصفا همه:

طال ليلي.. أما لصبحٍ طُروقُ *** فيولي.. أما لشمسٍ شروقُ

وتغيبُ الشموس عندي ومثوا *** هن ناءٍ في الصدر مني سحيقُ

يزحم الهم مثله مستميتا *** مثلما يزحم الغريقَ الغريقُ

نرى في الصورة أعلاه تدافع الغرقى غير آبهين إلا بالنجاة. لتتبوأ الفضيلة والقيم المثلى دنيء مكانها مقابل الواقع المر. فتجدهم مضحين حتى بنظرائهم فرط الخوف.

بالأبيات السابقة ترتكز في المخيلة صورة رهط من الناس. لكن الشاعر جاسم الصحيح أبى إلا أن يوظف الغرق وذعره أقصاهما بقصيدته «كي لا يميل الكوكب»:

في كل عضوٍ منك روح تقى *** تضفي عليه جماله الأنقى

فكأن خصرك وسط عزلته *** متصوف للعالم الأبقى

إلى قوله:

وجوارحي بهواك قد غرقت *** فأنا هنا سيل من الغرقى

نجد بهذه الصورة الحشر المهول من الناس، وما زاد من روعة البيت إتيانه بسياق غزلي نقيض له مبينا قلقه أمام هوى معشوقه. وهنا يذكرنا تشبيه الصحيح اللاذع ببيت للمتنبي واصفا سيف الدولة في مواجهته الروم:

نثرتهمُ فوق الأحيدب نثرةً *** كما نثرتْ فوق العروس الدراهمُ

أما الآن فلنستأنف المشهد ولنرافق الغريق المسكين في غرقه. بعد أن يغمره الموج المتلاطم ويبتلعه فإنه يحبس أنفاسه طواعية محاولا منع تدفق الماء، ليقل بذلك مستوى الأكسجين في دمه ويعتلي ثاني أكسيد الكربون. حينها يأخذ الجسم بزمام التحكم بعضلاته ويجبره على التنفس رغما عنه ليندفع الماء إلى فيه. وفي لحظة دخوله جهازه التنفسي وبالتحديد ملامسته للقصبة الهوائية، فإن الحنجرة تنقبض تلقائيا بإحكام لتحمي الرئة من خطر هذا الماء. ولعمري لم تدر الحنجرة أن المياه لن تنفرج عن هذا الجسم المسكين، لتبقى مقفلة إلى أن تتضرر الأعضاء بنقص الهواء ويموت الغريق إبان استسلام القلب بسكتة قلبية. وهنا يحدثنا فرانس كافكا عن هذا العجز في يومياته قائلا: «هذا العالم المسمم والبشع يتدفق إلى فمي كما يتدفق الماء في حلق الرجل الغارق». لم يكتف كافكا بذكر مأساة الغريق، بل أوقف شريط الغرق في أشنع لحظاته ليبطئها ويعرضها أمامنا على مدى عمره كاملا.

وصولا إلى نهاية المشهد نبصر الغريق عاجزا ترمي البحار بعظامه أينما شاءت. ووسط هذا السكون الكئيب نسمع صدى أنشودة المطر للسياب:

أصيح بالخليج: ”يا خليج.. يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى!“

فيرجع الصدى

كأنه النشيج:

”يا خليج.. يا واهب المحار والردى“.

وينثر الخليج من هباته الكثار،

على الرمال: رغوة الأجاج، والمحار

وما تبقى من عظام بائس غريق

من المهاجرين ظل يشرب الردى

من لجة الخليج والقرار.