آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

البعثة النبوية منهاج تربوي

قال تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴿الجمعة الآية 2.

لطف إلهي بالعباد أن أرسل إليهم الرحمة المهداة للعالمين؛ لينشر ما بينهم قيم السماء العالية والمضامين الأخلاقية الرفيعة، لقد جاءنا المعلم الأول ﷺ متصفا بالحلم وسعة الصدر والخلق العظيم الذي لا يضاهى، مسددا بالوحي الإلهي في كل ما ينطق به وينثره من درر حكمية، وله من الأسلوب الرائع الجذاب للنفوس والعقول بما يقنعهم بالحق والفضيلة، وذلك من خلال منطق الحكمة والمواعظ المحببة والقريبة للنفس، ولا يطرح فكرة أو مفهوما إلا من خلال الحوار الهاديء.

ولقد أثيرت الكثير من الدراسات والنقاشات حول مفهوم تربية النفس والقيم التي يتحلى بها المرء لتحصيل التكامل والاستقامة، وبالطبع ستكون تلك الرؤى ناجمة عما يعتنقه المصنف من معتقدات فكرية مع تعددها، وتدور أفكار الكثير منهم حول الجانب المادي وتحصيل المنافع، بمعنى بناء الإنسان الطامح لتحصيل أهدافه بغض النظر عن الوسائل، غافلة تلك التصورات الجانب الروحي وتغذية النفس بالقيم الأخلاقية الراقية، وذلك أن المنطق النفعي لا يرى فيها ذات جدوى بل هي ليست بأكثر من طابع المجاملات!!

التربية المحمدية المستمدة لتعاليمها من الوحي الإلهي تقوم على تقديم القيم والفضائل التي يسلك بها الإنسان طريق التكامل ونزاهة النفس، وتضع بين يديه مسلك الاستقامة والترفع عن الوقوع في وحل القبائح والمعايب، تربية تسمو بعقله بعيدا عن التقليد الأعمى والخرافات، ويرسم خط الاستقامة السلوكية والنباهة من الانجرار إلى دائرة الشهوات المتفلتة والأهواء الطائشة، فكما أن الفنان بريشته يخرج لنا في كل إمساك لريشته بصورة رائعة، فكذلك التربية الخلقية والتعامل الحسن نجده في كل كلمة وموقف يصدر منه، فالعقل الواعي الرشيد هو الغاية المستهدفة من تربية النفس، ولذلك كانت أولى التعاليم الإلهية مع بداية المبعث النبوي هو رسالة «اقرأ»، إنها دعوة للانفتاح على عالم القراءة والأجواء المعرفية ومجالس العلماء العامرة والزاخرة بالمعلومات، فالتربية تنمية المدركات العقلية وتكوين الجانب الفكري في شخصية الإنسان، ومن جانب آخر فإن الإنارة الفكرية تنعكس على جوهر سلوكياته وتصرفاته وتصطبغ بالتدقيق والحكمة والاتزان.

وتتحرك تلك التربية الوازنة في الفكر والوجدان والإرادة المنضبطة على مختلف الأصعدة الحياتية والعلاقات المتنوعة، فحينما تسمع منه فكرة ورؤية معينة تستشرف فيها النباهة والنضج والمستند المتين، وإذا رأيت منه سلوكا تربويا فهو - بالتأكيد - يخلو من الهمجية والاستهزاء والسذاجة والتهور، فالتربية المحمدية ليست بتنظير وأفكار جميلة ترسخ في الذاكرة ولا ترى لها وجودا وأثرا على أرض الواقع، بل هي تجسيد لتلك المفاهيم والقيم والتي تضفي الألق والرقي الحضاري والوسامة الاجتماعية على شخصيته.

والتربية المحمدية لا تقف بالإنسان عند درجة من الرقي والتكامل، بل تدعوه إلى شحذ قدراته ومهاراته بأجمعها وتنميتها؛ ليوظفها في طريق العمل المثابر نحو الهدف المنشود وهو تكامل النفس وتحليها بالخير والصلاح، مع تخليصها من شوائب الأمراض والآفات للأخلاق السيئة كالتكبر والبخل والغضب وغيرها، في عملية تكامل على جميع الأصعدة الفكرية والوجدانية والاجتماعية، فالتربية لا تقتصر على جانب دون آخر إذ نرى - مثلا - من يمتلك فكرا راقيا مع فقر أخلاقي أو اسوداد لمشاعره الممتلئة كراهية وأحقادا، بل هي بلورة للصورة الناصعة الجميلة لفكره الناضج ولعاطفته النقية وتأسيس علاقاته التي تقوم الآداب والتعاليم الراقية، فما نسمعه من طرح في المفردات التربوية التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان المهذب كالذكاء العاطفي والاجتماعي، ما هو إلا صقل للشخصية التربوية في الأبعاد الثلاثة، وهي: الفكر والعاطفة والعلاقات الاجتماعية والتي نجدها في صلب التربية المحمدية، وهي أساس دعوته إلى مكارم الأخلاق والتعامل الحسن على النطاق الأسري والاجتماعي.