آخر تحديث: 2 / 5 / 2024م - 8:10 ص

الأوبئة في قلب العولمة

محمد يوسف الحيز *

عندما تغير سلوك البشر تغيرت الفيروسات أيضاً. في العصور القديمة كان عدد السكان صغير جدا وتوجد صعوبة في التنقل والسفر بحيث لا يُمكن للأوبئة الانتشار أو البقاء على قيد الحياة بالشكل الذي نراه في العصر الحديث.

وفي القرن 20 و21 أدت الكثافة السكانية المتزايدة والثورة في أساليب الزراعة بالإضافة إلى سرعة السفر العالية إلى انتشار فيروسات جديدة وكما أدت إلى إعادة ظهور فيروسات أخرى قديمة من جديد. تستمر سلالات فيروسات جديدة في الانتشار حول العالم بسرعة وذلك بالرغم من الجهود والمحاولات لاحتوائها والسيطرة عليها. ونلاحظ تلك الفيروسات العملاقة جددت الاهتمام بالدور الذي تقوم به في عملية التطُور والإتمام بموقعها في شجرة الحياة.

من بين الأسئلة تلك المتعلقة بتأمل متجدد للعولمة، فقد بدأ الحديث عن عولمة مضادة، أو عولمة أخف، والقول بأن العالم قرية صغيرة صحيح بالنسبة للذين لديهم القدرة على اختزال الزمان والمكان، على أي حال يؤكد ”وباء كورونا“ أن العالم صغير، ولكن أيضا أن القرية الصغيرة تتكون من منازل قومية متناثرة ومنغلقة على نفسها، تداوي جروحها منفردة، تحد ما استطاعت من علاقاتها مع الخارج وغالبا ما يقتصر هذه الاستقلالية على الأشياء المادية: الاكتفاء الذاتي للبلاد في المجالات الصناعية «تصنيع الكمامات»، الغذائية، الصيدلية، الطبية، وما إلى ذلك.

لكن، لن نرمي الجمل وما حمل، فالعولمة مجموعة من العمليات المتناقضة تقوم بها مؤسسات لديها أفكار ومصالح متباينة أو حتى متعارضة، يجب إرساء توازن مع الفاعلين الايجابيين، ويجب أيضا أن يفرض الباحثون في العلوم الاجتماعية - الذين غالبا ما يتم تجاهلهم - هذا التوازن بين العلوم المحلية والعلوم الغربية بشكل عام، بلا تبعية ولا انغلاق، والسؤال الذي يجب طرحة حالا ومستقبلا من قِبَل جميع الباحثين بغض النظر عن أي انتماء كان، يتعلق بآثار هذه الأزمة الصحية على حرفة الباحث في العلوم الاجتماعية، توجهاتها، وأسئلتها المستقبلية، وما يزال من المبكر الإجابة على هذه الأسئلة بطريقة دقيقة، فهي تستحق التريث، ولو أن المجازفة في الأوقات الحرجة محمودة.

لولا العولمة، لم يكن هذا الوباء أن ينتشر بسرعة. كورونا هي فرانكشتاين العصر الحديث، فهي أيضا فرت ونجت من قوة العلماء وسرية المختبرات، هذه هي الاثار الضارة وغير المتوقعة للسيطرة اللامتناهية على الطبيعة باسم العلم والتكنولوجيا، وفي مرحلة ما، يبدو وكأن الطبيعة تثور وتنقسم حتى.

الأنثروبولوجيا، أو أي علم آخر، يتم تعريفه على أنه توسع لآفاق المعرفة البشرية، يمكن أن تساعدنا على فهم العلاقات المختلفة مع الطبيعة بشكل أفضل، بدءًا من البدائي الذي يقوم قبل القنص بطقوس يلج من خلالها في علاقة روحية مع بيئته، الغابة، الادغال، داعيًا المغفرة من روح طرائده، ولا يتعلق الأمر بأن نصبح بدائيين أو رومانسيين، لكن دعنا - بكل تواضع - أن نتعلم منهم دروسا «الطبيعة ليست ملكنا».

مازلت أتذكر نصا قرأته يجب نقشة على الرخام: صبي يقترب من جده وهو يزرع نخلة، عبّرَ الحفيد عن دهشته لجده الذي لين يحيى حتى يأكل ثمرها، فأجاب الجد: غرسوا وأكلنا ونغرس ويأكلون. إنه ذروة التضامن، أن تفكر في أناس لم يروا النور بعد.

هذا التضامن تفتقره العولمة التي نعيشها، ولقد كشف الوباء عن احتماء الدول خلف حدودها، وعانى الإيطاليون من أنانية الدول المجاورة وعبّروا عنها بمرارة، لهذا لا ينبغي تعريف العولمة فقط على أنها اختزال تدريجي للزمان والمكان.

هنا المعضلة الثقافية، بلا ادنى شك أنت لا تستطيع بين ليلة وضحاها أن تجعل من الشعوب اللاواعية شعوبا واعية. المسألة لها أبعادها الثقافية التي تأخذ  بالضرورة  تخطيطا شموليا على مدى زمني طويل.

لا يمكن أن تقنع مهوسين التسوق السذج بعدم الذهاب الى الاسواق، والاكتفاء بما هو ضروري فقط والجلوس في البيت؛ لأن المخالطة هي من أخطر طرق انتشار الفايروس  في هذا الظرف الصحي العام  من معظم صور الاجتماع التي تُحذّر وزارات الصحة منها. لا تستطيع أن تقنعهم بهذا؛ لأن وعيهم تشبّع بمفاهيم تجحد منطق العلوم، أو هي تستخف به في أحسن الأحوال.

قد أهملت الحياة اليومية العادية في الدول العربية العلوم الاجتماعية، وبعد ظهور الوباء كان من السهل ملاحظة كيف انقلبت حياة الناس رأسًا على عقب، وفرضت قواعد جديدة. إن ما يصعب على الناس اجتماعيا هو تعليق القواعد المعتادة التي هي معالم حياتهم اليومية، تعليق اللحظات التي تؤطر حياتهم، الدراسة، العمل، المسجد، المقهى، زيارة الأقارب والأصدقاء، تمارين بدنية، مشاهدة مباراة لكرة القدم، فلم يعد الوقت إيقاعيا، تتشابه الأيام بالنسبة للأغلبية، والأسابيع أيضا، لا بداية لها ولا نهاية، ويبقى الأصعب تبنّي معتقدات جديدة وسلوكيات جديدة في وقت وجيز، ونحن نعلم أن المعتقدات تستغرق وقتا للقبول، للاستيعاب، للانتشار، وللتعميم، غير أن يعتقدوا فوريا ويمتثلوا للتعليمات الرسمية. وإليكم نكتة وصلتني عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، توضح هذه الصعوبات:

«لمدة ساعة، وأنا أشرح لشخص خطر فيروس كورونا، وكيف ينتقل من شخص لآخر، والاحتياطات الواجب اتخاذها، عدم المصافحة، غسل اليدين، واحترام التباعد الاجتماعي. في النهاية، يفاجئني، يعانقني، يقبّل جبهتي داعيا لي: الله يرحم والديك.»

لهذه النكتة مغزى: ليس من السهل التواصل من أجل وضع معايير جديدة وقواعد جديدة في أسرع وقت ممكن وبفعالية، فالمواطن في مركز اهتمامات الدولة ومؤسساتها قلب هدف تواصلها، غير أن معرفتنا الضعيفة بحياته اليومية في الأوقات العادية لا تساعدنا على فهم وإدارة حياته اليومية بشكل أفضل في أوقات الأزمات.

وفي الأوقات العادية تعاني المجتمعات والعالم من اللايقين، ولكن بشكل متقطع فقط، حاليا كل يوم تقريبا يواجه الناس اللايقين، فيكتشفون الشيء وعكسه، والخبر ونفيه، إذ لا يمكن لأحد أن يتوقع متى ينتهي الوباء، ومع سير المسؤولين ببطء نحو أفق غير واضح، يزداد اللايقين، لاسيما مع شبكات التواصل الاجتماعي، وما أكثر النصائح - جلها بدون ناصحين - التي تخبرك بوجوب ارتداء الكمامة أم لا، ارتداء الكمامة من الجانب الملون أو الجانب الأبيض، ماذا تشرب لمحاربة فيروس كورونا، وهكذا أصبحت بعض المواد الوقائية مثل الكمامة، نادرة في أسواق مدينتي. ما المعلومات الصحيحة؟ ما الخبر الزائف؟ لمن تصغي؟ من تصدق؟ كل منا خبر كيف أن زمن كورونا محفوف باللايقين، بالتردد، بالحيرة، بسوء الفهم، وبالإشاعات عبر منصات التواصل الحديث كبرامج ومواقع التواصل الاجتماعي.

كيف يمكن تدبير المخاطر، والتعامل مع اللايقين من منظور العلوم الاجتماعية؟ كيف يمكن تدبير عزل الناس في بيوتهم لمدة طويلة؟ كيف نعرف المواطنون متحدين أم فردانيين؟ لسنا مستعدين تماما للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، لأننا بالفعل لم ندرسها بما فيه الكفاية قبل حلول الخطر. في أوقات الأزمات، من الضروري جدولة الأسئلة العاجلة والاتجاهات الجديدة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا التي تلزم الجماعات البحثية، فلا نستطيع كباحثين منعزلين الإجابة عن هذه الأنواع من الأسئلة التي تتطلب بنيات بحثية وموارد بشرية ومالية مناسبة.

لذلك بدون تشكيل مجموعات بحثية مؤقته لإنجاز دراسات تتجاوز قدرة الفرد على الإيقاع، سيكون بطيئا، ونطاق الأسئلة المستجدة التي تطرحها هذه الأزمة على علماء الاجتماع محدود جدا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
محسن المرهون
[ المملكة العربية السعودية / القطيف ]: 16 / 6 / 2020م - 11:59 م
الأخ العزيز الأستاذ محمد سُعدت بقراءة مقالك الجميل عبر منصة جهينة وأتمنى أن تستمر ونرى لك المزيد من المقالات النافعة والمفيدة، وأتمنى لك التوفيق والسداد
أخصائي وباحث اجتماعي
جامعة الملك فيصل
الأحساء