آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

وداعا أسطورة كرة القدم «25»

عبد العظيم شلي

بعد موقعة ”برنابيو“ الشهيرة، بدأت الأمور تسير إلى منحدر مغلق في وجه الفتى، أنفاسه لاهثة، والرأس حالة دوار، التأفف زفير، والحنق شهيق، والانتقادات أنفاس هواء قاس يحيط به من كل مكان، إدارة النادي تحمله الخسارة والاشتباك، والاتحاد الأسباني أصدر بحقه عقوبة توقيف عن اللعب لمدة 3 أشهر، وهو للتو عائد لمداعبة معشوقته، أمر مر وعقوبة قاسية كيف يتحمل هذا العبء؟ وشملت العقوبة اثنان من فريقه، بالتساوي ثلاثة لاعبين من برشلونة ومثلهم من اتلتيك بلباو.

الإعلام طرقات نقد، خصوصا الصحافة الأسبانية التي كانت متعاطفة مع الفتى عندما كسر كاحل رجله من قبل جزار بلباو، لكن بعد أحداث المباراة الأخيرة انقلبت الموازين رأسا على عقب، شنت عليه هجوما قويا لخروجه عن الأخلاق الرياضية وحملته تثوير الشغب وبالمثل هجوم لاذع ومماثل على فريق بلباو وجماهيره التي ساهمت في قسط كبير من ضجيج الفوضى بعد أن اقتحمت الميدان أمام أعين الملك كارلوس وضيوف الدولة، مشهد أساء للكرة الأسبانية، فرفع الاتحاد الأسباني مذكرة تدين الناديين اللذان لم يكونا على قدر المسؤولية اتجاه لاعبيهم وجماهيرهم، فأرغما على دفع غرامات مالية وتعهدات خطية وتواقيع بعدم تكرار أي نوع من الشغب.

الجو مشحون يتطلب قدرا من التهدئة. الخطى تقود مارادونا بنفسه لمقابلة الملك كارلوس داخل القصر مقدما اعتذاره، أبدى تأسفه لكل ما حصل ومعربا بأنه لم يكن ينوي أن يقوم بالاعتداء على أي أحد، فقط كانت لحظة انفعال لم تكن مبررة ولم يتوقع أن يتطور الأمر أكثر من ذلك، قبل الاعتذار بالتربيت على كتف الفتى، لكن الاعتذار لم يكن كافيا ولم تمر الأحداث بسلام على إدارة برشلونة التي بدأت تلمح لمارادونا بالخلاص منه، أروقة النادي وخلف الكواليس كوابيس، توتر ونهاية موسم حزين وختام سيء، أفق الرحيل تطرق الأبواب، ومنزل مارادونا الفاخر هل سيطفئ أنواره، ربما المعلقون الأسبان سيتوقفون عن ترديد اسمه في الموسم القادم، ما هو المخرج لتهدئة غليان الشارع الرياضي.

هو الوداع وبأي ثمن كان؟، الأمر يطبخ على نار مشتعلة ومصائب قوم عند قوم فوائد، فوضى عند البرشلونيين هل يبقى مارادونا أم يرحل! بالمقابل كرنفالات فرح تعم شعب إقليم الباسك، وصحفهم تمجد عرقهم الذي يعده علماء الأنثروبولوجيا وعلماء ال?ثار بأن نسلهم من السكان البشري الأصلي للقارة الأوربية، وفخر بحبات عرقهم التي جلبت الكأس الغالية، التبجح أخذ مداه وامتد سخرية من النيل من شخصية مارادونا واستنقاصا من ناديه برشلونة، وقال عنه مدربهم خافيير كلمنتي: بأن مارادونا تربية شوارع، إنسان جاهل غير متعلم، ولو حصل على قدر من التعليم لما قام بالعراك والضرب والسباب، مدرب تغافل عن لاعبيه بسبب عنفهم الذي لا مثيل له في الدوري الأسباني وسوء خلق جمهور أكثر حدة وشراسة وفوضوية، مشاكسات مستمرة تطلق من وسط المدرجات بحملهم إشارات تحريضية سياسية ضد الحكومة الأسبانية، مما انعكس على حرمانهم من إجراء أي مباراة رسمية للمنتخب الأسباني على أراضيهم، فمنذ منتصف الستينيات من القرن المنصرم وإلى اليوم لم يُقم أي لقاء رسمي للمتادور، والمفارقة تكمن بأن كل فرق الباسك تلعب في الليغا لكن الشعب الباسكي يشجع منتخبات الدول الأخرى على حساب المنتخب الوطني، لقد شجعوا منتخب هولندا ضد منتخب بلادهم في المباراة النهائية لكأس العالم 2010، وحين فاز الماتادور بكأسي اوروبا مرتين متتاليتين وما بينهما كأس العالم في جنوب افريقيا، لم يسمع في شوارع الباسك أي صوت للفرح ولم ترى علامات للبهجة، ولا حتى علم واحد للبلاد يلوح احتفاء ب 3 انتصارات عالمية متتالية ولو على سبيل المجاملة! إنها حالة جفاء مقيتة مشتعلة منذ عشرات السنين تخبو قليلا لكنها لم تنطفئ، هي كامنة تحت الرماد.

المتجول في المدينة الرمادية أي بلباو، يرى الشعارات المعادية لكل ما هو أسباني مرتبط بالسلطة في مدريد ويعبرون عن هذه السياسة، بالاحتلال الأسباني وشعارات أخرى مؤيدة لحركة إيتا الانفصالية، لهذه الأسباب سحبت من هذا الإقليم مباريات اليورو 2021 التي كانت مدينة بلباو سوف تحتضنها، وفجأة رحلت المباريات إلى مدينة اشبيليه جنوب أسبانيا!

كل كلام مدرب بلباو الفائز بالدوري والكأس ينطوي على روح التشفي والتعالي والغرور، والفائز أحيانا ينتابه العجب ويمد لسانه طولا، وما أقسى على المنهزم حين يتوارى دون تعليق ولم ينبس ببنت شفة، لكن لغة الصمت مغتنمة، والتبرير مضيعة، والثرثرة عبث، النظر دوما لما هو ?ت، ولن يجدي نفعا البكاء على الأطلال، العبرة في تقويم المرحلة بدراسة الأخطاء والعين على الغد وعدم الركون للماضي في كل مناحي الحياة.

فرحة اتلتيك ليست فرحة ناد بل فرحة أمة باسكية بأكملها، سواء داخل التراب الأسباني أو في الشطر الفرنسي، فهما شعب قسمتهما الظروف السياسية بين دولتين، فرحة جامحة عارمة متمثلة في نادي أتليتك بلباو بجلبه الكأس الذي اوعزوه لإيمانهم بقدرة أبنائهم دون الاستعانة بأي لاعب أجنبي على الإطلاق، منطلقين من المثل القائل «ما حك جلدك مثل ظفرك» لكن أظافرهم مخالب ضد جلود الغير، وفوزهم جيروه بسبب تمسكهم بوصايا الكنسية! حسب اعتقادهم.

فقد ورد في الخبر: قدم الكأس لعذراء بيجونا، بدأت أجراس البازيليكا في عزف الترنيمة الرياضية، تذكير بفخرهم الباسكي وقوميتهم، توفي الجنرال فرانسيسكو فرانكو منذ مدة طويلة لكنه لا يزال يعيش في ذاكرتهم، يجب أن يستمر القتال.

كيف ينسى الباسكيون قبضة الجنرال الحديدية إبان الحرب الأهلية على امتداد عقد الثلاثينيات من القرن الماضي واستدعائه القوات الألمانية التي دمرت إحدى القرى حينما أغارت الطائرات الحربية على قرية الجورنيكا التي خلدها الفنان بيكاسو في إحدى روائعه وعنونت باسمها، وتكمن شهرة اللوحة بوجه فني إبداعي وآخر سياسي ضد النازية.

الجنرال فرانكو أذاق الويل شعب الباسك وبطش بثوارهم على امتداد حكمه، ووصف إقليمهم بالولاية الخائنة، برحيله 1975 سلم الحكم للملك المنفي كارلوس وأعاده للسلطة وتحولت البلاد من جمهورية إلى ملكية ثانية - ملكية دستورية - وتغيرت النظرة للأقاليم بانفراجات سياسية ومناخ من الحكم الذاتي، لكن ظلت قيادة الشرطة والجيش والمراكز الأمنية في قبضة القشتاليين المدريدين على امتداد الأقاليم.

كل صراع دموي يخلف رواسب لا تمحى من نفوس الأجيال تتوارث جيل بعد جيل، لا بيدو بأن الحرب وضعت أوزارها في إقليم الباسك، قتال من نوع آخر، حرب ثقافية وأخرى لغوية، لقد تسمك الباسكيون بلغتهم اليوسكيرا بشدة وهي من أصعب اللغات في العالم نابذين لغة البلاد الرسمية، وأيضا قتال رياضي بجوار حراب إيتا الانفصالية، نظرة شعب نحو الاستقلال والمحصلة حاليا حكم ذاتي بعد سنين من الكفاح والإرهاب، ينظرون للكرة في كل مباراة تجمعهم بالآخرين ساحة ثأر وانتقام، وتصفية حسابات تاريخية بغض النظر عن نتيجة أي مباراة يخوضونها، ومن هنا تبرز السياسية بوجهيها المحق والقبيح لتكون هي المتن والعنوان.

ومضة ذكرى: وسط هذا الضجيج من تقلبات التاريخ، كان كاتب السطور في أسبانيا سنة 2000 برفقة زميله محمد الدرازي، وهممنا أن نزور متحف جونجهايم للفن المعاصر المفتتح حديثا 1997 بمبناه المتفرد والغريب، والذي يقع في قلب مدينة بلباو على ضفاف نهر نريفون، وعند محطة القطار كدنا أن نقطع التذاكر لكن التردد انتابنا في اللحظات الأخيرة، نذهب لمدينة سيئة السمعة قد لا ترحب بالسياح ونظرتهم للغرباء محل شك، هكذا كنا نتصور والخيال أخذنا فقط توقا لرؤية بلاد سماها العرب في العهد الأندلسي، بلاد البشكنش ”ومن اشهر اعلامها“ صبح البشكنشية ”او“ صبيحة البشكنجية" أم الخليفة المؤيد، الجارية في بلاط الخليفة المستنصر بالله، فتن بها عشقا ولعبت دورا كبيرا في ربيع قرطبة.

وبين التوق بقطع التذكرة قطعنا الحيرة وتراجعنا عن السفر من برشلونة لمدينة بلباو وغيرنا وجهتنا قاصدين مدينة فيغراس حيث متحف سلفادور دالي.

أخبار بلباو تتصاعد بمواجهة مستعرة بين منظمة إيتا وبين الجيش الأسباني، ف?ثرنا على أنفسنا السلامة، أي مكان مضطرب ينعكس سلبا على تفكير أي زائر والسائح ينأى بنفسه عن القدوم.

لكن تظل الكرة حالة اضطراب مستمرة لا تعرف الهدوء بتاتا، وهذا هو سر شغف الجماهير الرياضية، ومارادونا لم يهدأ يوما سواء بالكرة أو من دونها، على الدوام لافت للأنظار.