بين يدي الإمام الكاظم
ونحن نقف بين يدي قامة شامخة وسامية في المثل والعطاء والقوة في مواجهة الصعاب والتحديات، شخصية حافظت على اتزانها بل وعطائها وقد أحاطت بها البلوى والمحن، ومع ذلك كان الإمام الكاظم 
جبلا راسيا لا يؤثر فيه سلبا كدر الأيام بل كان نجمة مضيئة في سماء المدرسة الفكرية والتربوية والأخلاقية.
هذه السيرة الكاظمية المعطاءة تمثل مسيرا ومنهجا للأمة تقتدي به فتقتبس من كنوز الحكمة التي نطق بها على مختلف الأصعدة القرآنية والعقائدية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها؛ لتشكل قبسا ومنارا تهتدي به في ظلمات دروب الحياة ومتاهات الأفكار المسمومة والمشبعة بالمغالطات، إن نظرة تأملية في مجمل كلمات الإمام الكاظم يبرز ما تحمله من مضامين عالية اختصرها في كلمات قليلة؛ لتشكل مادة أمام الباحثين ليضعوها تحت مجهر التفصيل والتوضيح واستخلاص مجموعة الدروس التي تحملها.
ومن ملامح شخصية الإمام الكاظم تلك الصلابة والصمود التي واجه بها الظروف القاسية والصعبة التي لا تحتمل، ومع ذلك كان الإمام جبلا راسيا لا تؤثر فيه كل محاولات ثنيه عن طريق هداية وتنوير الناس وتبصيرهم بالحق والهدى، ولا نجد مثالا يحتذى به في مواجهة التحديات والتحلي بتحمل المتاعب والنفس الطويل في سبيل تحقيق أهدافنا وآمالنا كحياة الإمام الكاظم ، فليس هناك من سقطة لا نهوض بعدها كالهزيمة النفسية واستيلاء اليأس على النفس بسبب تعثر أو إخفاق، فما أكثر الحالات النفسية الناجمة اليوم من الشعور بالضعف والعجز أمام الظروف التي نمر بها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وغيرها، بينما نهج الإمام الكاظم يصنع الشخصية القوية التي تتعامل مع الواقع بمنطقية وعقلانية، وتقف بثبات واستقامة أمام المحن والأزمات فهي سنة إلهية لا استثناء فيها وعلينا مواجهتها بالحكمة وضبط النفس والعمل المثابر بعيدا عن المثالية أو التشاؤم، فإن كثرة التبرم والتشكي من الأحوال الصعبة التي يمر بها المرء لن يعود عليه بأي نفع، بل على العكس يتسلل إليه شيئا فشيئا فكرة الضعف أمام العوامل المؤثرة في حياتنا.
ومن ملامح شخصية الإمام الكاظم هو الجانب العبادي والانقطاع إلى الله تعالى، ففي الوقت الذي كان الإمام يعاني من الاضطهاد لم يكن يعالج آثار ذلك إلا بذكر الله تعالى ومناجاته؛ ليبرز لنا المعنى الحقيقي للعبادة وتأثيرها المحوري في حياتنا وطريقة تفكيرنا وسلوكياتنا، فالعبادة تنطلق من فكر نير يدرك العظمة والقدرة الإلهية المؤثرة في الكون وما فيه، عبادة تصنع وتبلور ملامح شخصية الإنسان النفسية والروحية والأخلاقية والاجتماعية في أفضل حالاتها وأكملها، فينطلق المؤمن العابد باتجاه هدف وهو رضا المعبود وترك فعل ما يسخطه تعالى، وهذا عين المفهوم القرآني الذي يتحدث عن غاية الصلاة وهي النهي عن الفحشاء والمنكر، فالعبادة انفتاح أنفسنا الملوثة بالشهوات والأهواء لتتصل بالجمال الإلهي فيهبها الطمأنينة وطهارة النفس، ويتجلبب العابد برداء السمو والتألق في جميع جوانب حياته، فتراه ذلك الإنسان الذي يتعامل مع الدنيا وزخارفها بعين الزهد والقناعة فيأخذ منها ما يحفظ أسرته عن ذل الحاجة، والعبادة رافد كبير للتعامل مع الآخرين بالحسنى ومراعاة الآداب والقيم التي تدعو لاحترام حقوق الآخرين وشخصياتهم، عبادة تدعو إلى مد يد العون والمساعدة لقضاء الحوائج والاهتمام بأحوال الضعفاء وتلمس آلامهم، عبادة تحرك المرء نحو العمل على تنمية وازدهار مجتمعه من خلال موقعيته التي تناسب قدراته، وعبادة تدعو إلى تنمية مدارك العقل من خلال المطالعة والانفتاح على المعارف المختلفة؛ لتتشكل رؤيته الفكرية والثقافية فيعمل على تنوير الآخرين بما يحمله من رؤى وتصورات.
والخلاصة أن حياة الإمام الكاظم ملأى وزاخرة بالمواقف التي تحمل معاني السمو والنبل، حياة ترفعت على الانغماس في الشهوات فارتقت بما تحمله من أخلاق وقيم، حياته تبث روح الوعي والنضج الفكري والتحرر من التبعية والتقليد الأعمى، حياة تحمل رسالة السلام والتسامح ونزع بذرة الكراهية والأحقاد من خلال الصفح عن المسيئين؛ حتى لقب بالكاظم لأنه كان يحمل راية الصفح عمن ظلمه وأساء إليه فليس له هم وهدف سوى الإقبال على ربه ليهبه القوة في ميادين التبليغ والعمل المثمر.
