آخر تحديث: 30 / 4 / 2024م - 8:06 م

الخلوة والانقطاع والصفاء الروحي

عبد الغفور الدبيسي

ربما كان الاساس في مفهوم العبادة هي الخلوة والمناجاة أي الحديث الخاص كمن يناجي محبوبه في خلوة يفضي اليه ما في نفسه وما يسره ويسوءه بعيدا عن أعين الناس وأسماعهم وبعيدا عن ضجيج الحياة وما قد يلوث السمع والبصر ويصرف الذهن. ولست في معرض بحث في الاديان بقدر ما هو ملاحظات عامة عن السلوك العام لاتباع الاديان وربما كانت بعض الاديان اميل إلى الخلوة والانقطاع من اديان اخرى. فالظاهر مما نعرف عن النصرانية مثلا انها تندب التي الترهب والانقطاع كما حكى عن ذلك القران الكريم ايضا «ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها». وكثير من الاماكن العبادية المشهورة في العالم تقع بعيدة عن المدن وفي اماكن منقطعة على رأس الجبال والتلال. وكما قلت فإن كثيرا من اديرة النصارى في بلاد العراق والشام مثلا تبنى في مثل هذه الاماكن وكثير منها موجود حتى يومنا هذا. ولمن قدر له ان يزور معبد شاولين البوذي الشهير Shaolin Temple خارج العاصمة الصينية بكين يرى فيه جمال الطبيعة في مكان منقطع بعيد عن المدينة.

من الملاحظ ايضا ان كثيرا من اصحاب الرسالات والديانات والمذاهب انقطعوا وخلوا لفترات طويلة قبل ان يأتوا الناس بأديانهم ومعتقداتهم الجديدة. فمن المعروف ان رسول الله قد تحنث وانقطع للعبادة في غار حراء «انظر بعده عن مكة ووعورة مسلكه» سنين طويلة قبل نزول الوحي عليه لا ينزل منه وكانت أم المومنين خديحة تأتيه بأكله وشرابه. وقد أثر عنه صلى الله عليه واله انه كان يضرب له خوخة «خيمة صغيرة» في المسجد يختلي فيها في العشر الأواخر من رمضان لا يخرج الا للصلاة.

وقد حكى القران عن اعتزال ابراهيم قومه فقال «وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي» وتشير اية أخرى إلى انه لما اعتزلهم «وهبنا له اسحاق ويعقوب» لكأنما كان الاعتزال سببا لذلك. وقد حكى القران عن أهل الكهف اعتزالهم وفرارهم بدينهم في الكهف وان كنا نتكلم هنا عن عزلة قسرية لا ارادية. بل ان بعض الفلاسفة اتوا بأرائهم بعد طول عزلة وانقطاع. وقد فسر بعضهم الاية الكريمة «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا» بانها تشيرالى أثر الاختلاء والانفراد في الوصول إلى الحق والتحرر من أسر المجتمع.

وربما كان الإسلام أكثر الاديان حركية وحيوية وارتباطا بالاحداث الاجتماعية عاكسا بأحكامه وتشريعاته البيئة التي نزل فيها حيث تفاعلت ايات القران على مدى ثلاث وعشرين سنة مع الاحداث التي حصلت في مكة والمدينة من مناوشة المشركين ومعارضتهم ومجادلاتهم في مكة إلى الحروب والغزوات والصلح والسلم ودسائس اليهود والمنافقين في المدينة وغير ذلك ما يعكس دينا امتزج بالحياة وتحرك على ايقاعها. ومع كل ذلك بدأت ميول التبتل والانقطاع على عهد رسول الله نفسه وبالغ بعضهم حتى شكي اليه صلى الله عليه واله وسلم فنهاه وأنبه وقال لا رهبانية في الإسلام. ومع مضي الزمن ظهرت دعوات إلى الزهد والتبتل والانقطاع بعيدا عن صخب الحياة ومشاكلها وحتى لا نغرق في تفاصيل دعوات اهل التصوف والعرفان فإن ما يهمنا في المقام هو دعوتهم إلى الخلوة في العبادة وتبتلهم في الصوامع والتكايا والزوايا. وربما اقتسم الساحة «ولا تزال إلى حد كبير» دعوتان: دعوة اهل الحديث والرواية وهي أميل إلى ما أثر عن السلف من اقامة العبادة في جماعة الا ما استثني من النوافل ودعوة أهل التصوف والعرفان وهي أميل إلى التعبد فرادى في المساجد والصوامع وتلاوة الاوراد والاذكار وربما كان الخلاف الذي ثار بين الصحابة عندما أمر الخليفة الثاني باقامة صلاة التراويح في جماعة - مما عده بعضهم خلافا للسنة - كاشفا عن الخلاف الذي امتد مع الزمن إلى يومنا هذا.

ومع انتشار وسائل الدعوة في العصر الحديث من صوتيات واجهزة بث وصولا إلى الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وجد الكثير من المتدينين فيها فرصة لنشر دعوتهم على أكبر نطاق فبثت الصلوات من شاشات التلفزة «كثير من القساوسة المسيحيين والمشايخ المسلمين يبث صلاته مباشرة» وتجمع الناس للدعاء في ليالي الجمع والمناسبات حتى أضحت بعض العبادات كأنها احتفالية ضخمة بما فيها من صخب وترديد ومكبرات وغيرها. كثير من اهل الاديان يرى في هذه الصلوات الجماعية الصاخبة والاحتفالات الدينية الحاشدة أسلوبا لتعميق قيم الدين وأهداف الدعوة وتأكيدا وتعزيزا لحضورها في المجتمع. ولذا اجتهد كثير منهم في تحويل كثير من النوافل «التي كان اصل حكمها الخلوة والانفراد» إلى اداء جماعي ابتغاء الوصول إلى مثل هذه الاهداف. ومن الطريف ان عبادة واضح في مقصدها الاختلاء والانفراد كعبادة الاعتكاف يطالها ما طال غيرها فيكون للاعتكاف برنامج محدد ومحاضرات وتعليم اثناء الاعتكاف!

يرى البعض ان في احياء هذه المناسبات بشكل جماعي مكسب على الصعيد الاجتماعي ولكن فيها خسارة على الصعيد الفردي. وبعبارة أخرى فإنها مكسب على صعيد الظاهر ولكنها خسارة على صعيد الباطن. إذ تتحول العبادة من عمل ذاتي وعلاقة مباشرة مع الله إلى طقوس محددة يؤديها المؤمن لكنها لا تترك الأثر المرجو لما للخلوة من دور في الرجوع إلى النفس والتحدث لها والتفكير الحر غير المقيد بقيود الجماعة. انها انتصار لروح الجماعة وهزيمة لروح الفرد. وربما كانت هذه هي حكمة التشريع في اصلها الذي اجتهد البعض لاستحداث حكم ثانوي لها.

الدراسات الحديثة بدأت تركز على مفهوم الانفراد والصفاء وضرورته للتوازن الروحي وان لم تكن بدوافع دينية ولكنها تلتقي معه وتؤدي نفس الدور الذي هو دور تاريخي للدين. ومع شدة الضجيج والتشوش الذي أحدثته الحضارة الحديثة ومنتجاتها المختلفة التي تكاد تسلب الإنسان من نفسه بدأت النزعات في العالم كله والغربي خاصة إلى التوجه نحو اديان ومعتقدات الممارسات الروحية التي تعتمد على الانفراد والخلوة والتأمل الذاتي وهكذا نجد اهتماما متزايدا في نزعات التصوف والبوذية وأمثالهما ومحاولة احيائها والاستفادة منها بل وتحويلها إلى مشاريع تجارية.

الطريف ان فكرة الاختلاء والانفراد التي قام بها الرسل والفلاسفة سابقا بدأت تتمدد لتشمل حتى رجال الاعمال والمفكرين فهذا بيل قيتس صاحب مايكروسفت يختلي في كل ستة أشهر اسبوعا فيما يسميها أسابيع التأمل أو التفكر «Think Weeks» ويعتبر ان الاختلاء والانفراد مقدمة للحصول على الافكار الملهمة «يذكرني بالصوفية والوصول إلى المقامات الصوفية المختلفة» ليصبح الشعار.. انقطع تصل!

الموضوع جميل وينفتح على احتمالات كثيرة.. فتأمل