آخر تحديث: 2 / 5 / 2024م - 8:10 ص

التحليل الطبّي للأحداث التأريخيّة

زكريا الحاجي

في سرد الأحداث الدّمويّة التي ينقلها لنا التأريخ، مثل أحداث عاشوراء، أو شهادة الإمام علي .. وغيرها من نقولات متعدّدة تحكي لنا كيفيّة القتل أو عمليّة الاغتيال التي وقعت حينها، من خلال تفاصيلها يُدخِل البعض تخصّص علم التشريح والطب في تحليل تلك الأحداث، وقد يَخرج بنتيجة مغايرة للنّقل التأريخي - أو لبعض حيثيّاته وتفاصيله -.

من قبيل ما ذُكر في الضّربة التي أصابت الإمام علي وعلى إثرها استُشهد، يحاول البعض تحليل المعطيات التأريخيّة التي بين يدينا، ومن خلالها قد يخرج بنتائج مغايرة لما يذكره التأريخ، مثلاً: يدّعي أن أمير المؤمنين توفّي في لحظتها، أو أنّه أغشي عليه، أو أُصيب بشلل يمنعه من الكلام.. وغير ذلك من احتمالات يرتكز في دعواها إلى علم التشريح والطب، ومن ثمّ يستنتج أنّ المنقول تأريخيّاً من قبيل قول الإمام : فزتُ وربّ الكعبة، أو ما أوصى به أبناءه.. وغير ذلك من حديث أو حدث صدر منه، لا اعتبار له؛ لأنّه يصطدم مع معطيات العلم.

وكذلك الأمر يتكرّر في تفاصيل عاشوراء، كما في العباس ، عندما ينقل التأريخ أنّه قُطعت كلتا يديه، وفلق رأسه بالعامود، من خلال إخضاع المادّة التأريخيّة لمشرط التشريح عن بُعد، ومن ثمّ لا يمكن القبول بالمحاورة التي وقعت بين العباس والحُسين ، لأنّ نزف الدّم بكميّة كبيرة لا تُمهل الإنسان الطبيعي تلك الفترة التي يحتاجها حتى يصل الإمام إلى أخيه ويتحدّث معه.

لكن يبدو أن هذا المنهج غير مُجدي - عادة -، ولا يمكن الاعتماد دائماً على تلك التحليلات، وليس المحذور في نفس تخصّص الطب، وإنّما لأنّ الكثير من تلك المواد التأريخيّة غير صالحة لاستنتاج حكم قطعي - أو واضح - من خلال المنهج التشريحي والطبّي؛ وذلك لعاملين مهمّين:

الأوّل/ طبيعة التشخيص الطبّي أو التشريح، يحتاج - عادة - لإبداء حكم واضح، إلى المباشرة وعدم الاكتفاء بالمشافهة، فضلاً عن نقل تأريخي قديم، سقطت منه كثير من التفاصيل المهمّة والتي تحتاجها مثل هذه التخصّصات في ممارسة عملها الطبيعي.

ثانياً/ طبيعة المادّة المنقولة التي تتفاوت تفاصيلها بحسب غرض النّاقل: فعندما يكون ناقل الحدث غرضه مجرّد إخبار عن وقوع حدث اجتماعيّ، تختلف تفاصيل النّقل فيه فيما لو كان غرضه توثيق الحدث تأريخيّاً، وتختلف ثالثة عندما يكون الغرض محاولة اكتشاف ملابسات القضيّة وإدانة جهة معيّنة، وتختلف التفاصيل في المرّة الرّابعة عندما يتعلّق الغرض لبيان الجهة الطبيّة.. وهكذا يتفاوت ذكر التفاصيل بحسب غرض النّاقل.

وقد تكون المادّة المنقولة تخدم عدّة أغراض بنسب متفاوتة، لكن مع ذلك فيما يرتبط بتخصّص الطب، عادة لا يمكن إعطاء نتيجة واضحة ودقيقة من خلال النّقل والمشافهة، ولا يكتفي الأطباء بذلك، لا سيما إذا كان النّقل لأغراض غير طبيّة؛ لأنّ المادّة التأريخيّة تكون غير صالحة، لوجود نقص كبير في المعلومات، هذا فضلاً إلى كون الطبيب - عادة - يحتاج إلى فحص مباشر للحالة، لاستكشاف الأسباب الواقعيّة.

عند مراجعة الطبيب، تجد بأنّه بالإضافة إلى الكشف والفحص المباشر، يتوجّه بأسئلة محدّدة إلى المريض، حتى يحصل على المعلومات والمعطيات التي يحتاجها في ممارسة تخصّصه، ولكن في مثل المادّة التأريخيّة لا يمكنه ذلك، فيضطر إلى سدّ الفراغات والفجوات الكثيرة التي أحدثها الزّمن في المادّة التأريخية، بالاحتمالات والحدسيّات، حتى تتشكّل له صورة كافية وصالحة لاستنتاج طبّي، وهو ما يجعل ذلك الاستنتاج مجرّد فرضيّات مليء بالاحتمالات.

وكذلك نجد في الأحكام الجنائيّة ضرورة تشريح الجثّة ومباشرتها من قِبل مختصّ، لكتابة تقرير واضح في سبب الوفاة، ولا يكفي الاعتماد على النّقل أو حتى الصّورة الفتوغرافيّة للحادثة.

فالأمر من قبيل علم الأحفوريّات، لا أظن أنّ أحداً يدّعي من أهل الاختصاص بأنّ قراءتهم للحياة القديمة مكتملة؛ لأنّ المعطيات والمُستَحاثّات التي بين يديهم اليوم أقل بكثير من الواقع القديم، ولهذا يضطر المختصون إلى مزج الحدس مع المعطيات الأثريّة، لصياغة صورة - احتماليّة - عن تلك الحقبة، ويعتبرونها مجرّد فرضيّات أو نظريّات وليست حقائق مكتملة، ويبقى التصوّر عن الشّعوب والكائنات الحيّة القديمة قابل للتغيّر سريعاً في مثل هذه الدّراسات مع أيّ اكتشاف مستجد.

ونحن عندما نتحدّث عن تلك الحقائق التأريخيّة التي وقعت في شهادة الأئمة - أو غيرهم -، لسنا بصدد الحديث عن حالات إعجازية كما في نبي ابتلعه حوت، أو نبي أُلقي في النّار.. فتلك قضايا يدخل فيها عنصر الإعجاز، وإنّما حديثنا عن القضايا الخاضعة للعادة والسّنن الطبيعيّة، فما نجده في تأريخ استشهادهم قد يكون غريباً لدى البعض، ولكن كثرة الأشياء الغريبة في الطب ليس غريباً، كثيراً ما يشاهد الأطباء في حياتهم المهنيّة أموراً غريبة، لكن بعد الفحص تتضح الأسباب الطبيعيّة، وترتفع معها الغرابة.

باختصار: ”عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود“، فعدم معرفة الأسباب الطبيعيّة التي تفسّر لنا كيفيّة حدوث تلك الأمور - المستغربة لدى البعض -، لا يعني أنّها غير موجودة، فطالما أنّنا توثّقنا من سلامة وصدق المادّة التأريخيّة من خلال أدوات البحث والتنقيب التأريخي، فهذا يعني أنّها وقعت بأسبابها الطبيعيّة، ولكنّها مفقودة ولم تصلنا مع المادّة التأريخيّة التي بين يدينا.

إلا إذا كانت القضيّة تُعارض بديهيّات تلك التخصّصات، كما لو نَقل التأريخ أن رجلاً قُطع رأسه، ولا يزال يمشي ويتحدّث مع النّاس، فهذا ليس من الأمور الغريبة، بل الخرافيّة بحسب النواميس الطبيعيّة.

خاتمة: لا توجد أيّ حزازة في التعامل مع الأدوات والتخصّصات العلميّة الحديثة، ومراجعة كلّ التفاصيل التأريخيّة، والعدول عن القناعات القديمة فيما لو اتضح فعلاً بطلانها، لا سيما إذا كانت مجرّد جزئيّات لا تضر بأصل القضيّة، فليكن - جدلاً - أنّ الإمام علي أُستشهد في لحظتها عندما ضربه ابن ملجم، أو أن العباس لم تُقطع يداه، فهذا لا يضر بالقضيّة ولا يُنقص من مقامهم ، ولكن كثير ما يُدّعى بأنّه معارض للمعطيات العلميّة غير علميّ، ولا نجد مبرّراً للتنازل عن تلك المادّة التأريخيّة.