آخر تحديث: 15 / 5 / 2024م - 4:26 م

كيف أكون إنسانا؟!

عند إثارة الحديث حول ذلك التكريم الإلهي الذي أسبغه الباري عز وجل على الإنسان ليكون في أعلى درجات الألق والفضل والحسن، يقع التركيز على المصداق الأجلى وهو العقل والذي يمثل محورية حركة الإنسان على المستوى النظري والتطبيقي السلوكي، وبلا شك فإن المرشد وقبس النور للإنسان نحو التكامل والعلا هو العقل بما يمثله من جامع لجوانب الشخصية في جوانبها النفسي والاجتماعي والوجداني «العاطفي»، وإلا فإن الرقي لا ينحصر في جانب واحد بل يتعدد في جميع جوانب شخصيته ومختلف الميادين التي يخوضها في الحياة، وإن كان مرجعيتها واحدة والنظر في كل الأمور بنحو عقلائي يتبصر من خلاله المرء أي خطوة يفكر فيها والنتائج المترقبة لها، فتكون مركزية عمله تجري بحسب الموازنة بين النقاط الإيجابية الجارية في جانب مصلحة تقدمه وبين النقاط السلبية التي تسقطه في بؤرة الخسران والضياع، وهكذا يتولد من خلال حركة العقل الراجح والراشد مجموعة من الأسس والمعايير التي يستطيع من خلالها تشخيص المفاهيم والأفكار والظواهر سواء في الجهة الأخلاقية أو الاجتماعية أو النفسية.

ونحن نعاصر اليوم ذلك الكم الهائل من الأفكار المسمومة والغزو الثقافي والعقائدي بكافة أشكاله، نحتاج إلى الوعي والبصيرة لكي لا ننجر خلف الدعاوي الباطلة بلا بينة، وهذه دعوة الإلحاد المرتكزة على إنكار أوضح الواضحات ووهو وجود الله تعالى قد اعتقد بها البعض وانساق خلف العبارات الرنانة الداعية لها، ولو امتلك ذاك الشاب أدوات التفكير المنطقي لما انطلى عليه هذا الضلال والانحراف، وحتى في مثل الشبهات المروجة لها بقوة لدفع الشباب نحو الابتعاد عن الدين الحنيف وقيمه، هناك حصون الأمة من العلماء المتقين الذين انبروا لتفنيد تلك الشبهات وما نحتاج إلا لتفريغ بعض الأوقات للاطلاع على ما كتب والاستماع لما قيل.

وعلى مستوى القيم الأسرية تجد الحملات المسعورة لمحاربتها واستبدالها بما يفكك عراها، ويتم ذلك من خلال الحرب الناعمة المحتوية على عبارات الحرية المزيفة والتحرر من قيود الماضي، وهذه الظواهر الأسرية السلبية التي تطفو على المشهد تعمل على تدمير السور الحصين للأبناء والزوجين، ونحتاج إلى تلك القيم الداعية للوئام والتفاهم بين أفراد الأسرة بعيدا عن الخصومات وتقاطع المصالح الضيقة وتجنب تقديم لغة المال في كل قضية مطروحة على مستوى علاقة الإخوان.

والبعد الاجتماعي وتكوين العلاقات الناجحة بين الأصدقاء تتعدد النظريات والتصورات لأسسها، وبدأت الحالة المادية تطغى وتسود لتتحول الصداقة الجميلة إلى بازار الذمم الدنيئة، ويا لسوء الحال لو غفلنا عن قيمة التعاون والثقة بين الأصدقاء والجيران لتكون بعيدة عن تحري المنافع الذاتية واللهث خلفها، وما أجمل القيم الداعية إلى إسعاد الآخرين ومساعدتهم في الجانب المعنوي والمادي، فيشعر المرء بهموم الغير ويسعى إلى التخفيف من وطأتها الأليمة وإدخال السرور إلى قلوب الغير، وما ذاك إلا للسعي نحو تحقيق الذات المكرمة بالتخلي عن الأنانية المقيتة، ونبذ تأليه الذات وتضخمها لتتعالى كالدخان فيرى الآخرين قزماء!!

وعلى المستوى الأخلاقي في مواجهة طغيان النفس وانسياقها الأعمى خلف الشهوات المتفلتة والأهواء المضللة، نتحصن بتلك القيم الداعية إلى نزاهة النفس وطهارتها من دنس العيوب والنقائص، فالعقل الناضج لا يمكنه أن يتقبل حالة الهبوط الأخلاقي وتعاطي المساوئ والرذائل التي تسقط المرء في أغلال العبودية للنزوات، فالإنسان قامة عالية لا تأسره الحاجات بل يمارس حريته وفق مبدأ الضمير الإنساني اليقظ الذي لا يرضى لصاحبه السقوط في وحل العيوب.

والمنهج القرآني - عند تأمل وتدبر آياته - يرسم معالم الشخصية الإنسانية الكريمة من جميع الجوانب الإيمانية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية، وكذلك المنهج النبوي لمحمد ﷺ وأهل بيته الأطهار يفسر ويبين تلك الجوانب من خلال الكنوز التي احتوتها كلماتهم النيرة، وأما سيرتهم الغراء فهي تجسيد عملي لتلك القيم الإنسانية النبيلة بأعلى درجاتها الكمالية.