آخر تحديث: 15 / 5 / 2024م - 8:18 ص

رحلة الحج وصياغة الشخصية ‎‎

مناسك الحج العبادية وإن كانت توقيفية أي ذات صورة وأحكام يؤتى بها وفق الشرع الحنيف، ولكن لا ينبغي النظر لهذه المناسك بنظرة الجمود والاقتصار على التأمل في هيئتها الظاهرية، فإننا في هذه الحالة لن نصل إلى الغايات الإلهية من هذه الفريضة وما تحمله من مضامين عالية تتعلق بصياغة شخصية الحاج في أخلاقه وسلوكياته وطريقة تعامله مع الآخرين، إذ أن العبادات فرضها الباري عز وجل لتحلي المرء بحلة الورع عن محارم الله تعالى وتنشيط وتنبيه فكره تجاه ما يتربص به من مخاطر وأعداء يترقبون انزلاقه في مستنقع الشهوات والأهواء، ولذا فإن الصلاة والصوم والحج والزكاة وبقية العبادات تعمل جاهدة على تخليص الإنسان من ربق النزوات والوقوع في أسرها، وهذا ما نستكشفه مما وراء تلك الأحكام الخاصة بمختلف العبادات.

ونتحدث عن فريضة الحج في تنظيمها للعلاقات الاجتماعية وفق قاعدة الاحترام للفرد وحقوقه المادية والمعنوية ومفاهيم ارتكازية في الحياة الآمنة كالتعاون والإحسان للغير، فمن تأمل في تلك المحظورات للإحرام يجد فيها تنوعا للإمساك عن الشهوات المتعلقة بغرائز الإنسان، وأخرى تتعلق بالتعدي على الغير كالفسوق وهو الشتم وغيره من أساليب الإيذاء باللسان، وما هذه الإشارة إلا إيماء نحو حفظ العلاقات الاجتماعية بحالة الألق والنجاح بعيدا عن كافة عوامل التوتر والضعف.

ولو نظرنا إلى هيئة الحجاج وهم يرتدون لباسا موحدا لا تظهر فيه أي فروقات مادية أو عنصرية أو جغرافية، لفهمنا حقيقة الإنسانية الموحدة الداعية لنبذ الخلافات والتفرقة القائمة على أسس مصطنعة ما أنزل الله بها من سلطان، فقدر ومكانة الإنسان بحسب جده وسعيه في طريق القرب الإلهي وتحقيق العبودية المطلقة، ولذا فالناس من جهة أصل الخلقة متساوون ولا يتقدم واحد على الآخر إلا بتقواه وتكامله الإيماني والنفسي والأخلاقي.

وفي رحلة الحج والتلاقي مع المؤمنين تمتزج روح المثابرة والجد في خطى التقرب إلى الله تعالى، وبلا شك فإن العبادة الواعية تفتح أفق التفكير وتسهم في الانفتاح على فهم حقيقة الدنيا، والدور الوظيفي المناط بالإنسان والاستعداد للحساب في الدار الأخروية، في رحلة إيمانية يتسابقون فيها للظفر بالرضوان الإلهي وتحقيق إنسانيتهم المتكاملة بالأخلاق الرفيعة والطهارة من الرذائل والعيوب.

ومن تلك الجوانب المشرقة في هذه الرحلة الإيمانية هو جانب الانعتاق من ربق الأنانية والتقوقع حول المصالح الشخصية، والانطلاق في ميادين التكاتف والتكافل والتعاون ومساعدة الآخرين ماديا ومعنويا، بما يشعر المحتاجين بأنهم لا يأنون تحت وطأة الفقر الثقيلة التي تكسر عظامهم وأنهم لا يواجهون صعوبات الحياة المالية لوحدهم، بل هناك توجيهات وتشريعات إلهية لوحظ فيها مساندتهم والوقوف معهم، وذلك بملاحظة حكم الهدي والكفارات التي يعد الفقراء والمحتاجون مصرفا لها.

كما أن روح التطوع لمساعدة الآخرين وتقديم كافة أشكال الخدمة للحجاج قد حث الشارع المقدس عليها وجعلها من أفضل القربات، كما كانت عليه سيرة الإمام السجاد والذي يعمل على تقديم الخدمات للحجاج في قوافل لا يعرفون شخصه المبارك، وهكذا يقتدي المؤمنون بالأئمة الأطهار فيعملون على مساعدة الحاج بما يتمكنون منه.

وهذا التلاقي بين حجاج يأتون من كل فج عميق ينشيء التعارف والتقارب والانسجام، فهميختلفون في عاداتهم وأعرافهم ولغاتهم ولكن يجمعهم الامتثال للأمر الإلهي بأداء مناسك الحج، وهذا التجمع يشجع على روح التعايش والتعاون مع اختلاف المناطق الجغرافية، والسلم الأهلي والأمان المجتمعي من أهم الحاجات الإنسانية لانتظام حياة الناس وتحريك عجلة المعرفة والعمل.

والخلاصة أن رحلة الحج تحمل مضامين تكاملية كثيرة على مستوى الفكر والسلوك والعلاقات، فهناك يخلو المرء مع نفسه وتتاح له فرصة محاسبة نفسه وإعادة ترتيب أوراقه وتصحيح أخطائه، كما أن تلك المحظورات للإحرام تتضمن تهذيبا لسلوك الإنسان ومراقبة شهواته، وخوض تجربة المواجهة والامتناع عن بعضها لفترة من الوقت؛ لينطلق بعدها عالي الهمة وقوي الإرادة في مواجهة ومحاربة الشيطان الرجيم والنفس الأمارة بالسوء.