آخر تحديث: 16 / 5 / 2024م - 6:31 م

سؤال النَّهضة في الفكر العربي.. من ألبرت حوراني إلى زكي الميلاد

فوزي الغويدي

مدخل:

ظلَّ عصر النهضة العربي مجالًا خصبًا للكتابات التَّاريخية، والدراسات الفكرية، التي سعت إلى تأريخ أفكار هذا العصر، ودراسة التفاعلات الفكرية والحركية وربطها بعصرنا الحاضر. لذا سأقوم بعمل مقارنات ومقاربات بين ثلاثة كتب مهمَّة تناولت فكر النهضة العربي عبر سلسلة من المقالات، بحيث أبتدئ بكتاب ألبرت حوراني الذي يعتبر باكورة الكتب التي أرخت لعصر النهضة العربي، وأنتهي بكتاب زكي الميلاد وهي بحسب تعاقبها الزَّمني على النَّحو الآتي:

1 - الفكر العربي في عصر النهضة، لألبرت حوراني الصادر عام 1962م.

2 - الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، لعلي المحافظة الصادر عام 1975م.

3 - عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟، لزكي الميلاد الصَّادر عام 2016م.

وتمتاز هذه الكتب بالتباعد الزَّمني، واختلاف الطَّرح، وبينها كتاب حديث الإصدار، كما نجد أنَّ هناك تباعدا زمنيا بسيطا بين الدراسة الأولى والثانية وتباعد ما يقارب ثلث قرن ما بين الدراسة الثانية والثالثة، وهو ما دعانا إلى عمل مراجعة ومقاربة بين هذه الأطروحات، حيث سيكون المقال الأول تقديم عرض لكتاب ألبرت حوراني، والمقال الثاني تقديم لكتاب علي المحافظة، ثمَّ المقال الثالث مناقشة كتاب زكي الميلاد، وعرض المقارنات والملاحظات بين الكتب الثلاثة.

القسم الأول:

كتاب ألبرت حوراني «الفكر العربي في عصر النهضة.. 1797 - 1939م»

ولد المؤرخ ألبرت حوراني في مدينة مانشستر عام 1915م، وهو من أصول لبنانية، تخرَّجَ من جامعة أكسفورد عام 1936م حيث درس فيها التاريخ والفلسفة والاقتصاد والسياسة، عمل أستاذًا جامعيًا في الجامعة الأمريكية في بيروت ما بين أعوام «1937 - 1939م» [1]  وأيضًا في جامعة أكسفورد حتى تقاعده عام 1979م. كما عمل أستاذًا زائرًا في عدة جامعات، وقد توفي عام 1993م.

من أهم كتب ألبرت حوراني ”تاريخ الشعوب العربية“ الصادر عام 1991م، والكتاب الذي نحن بصدد عرضه ”الفكر العربي في عصر النهضة“. لا يفضل ألبرت حوراني أن يتم وصفه بمستشرق، وإنما يصف نفسه بإنجليزي المولد والنشأة والكتابة[2] ، فهو مؤرخٌ استخدم المنهج الغربي في التَّأريخ العربي[3] .

يُعتبر كتاب «الفكر العربي في عصر النهضة.. 1797 - 1939م» من الكتبِ المبكرة التي عُنيت بدراسة وتأريخ الأفكار النهضوية للعرب من نهاية القرن الثامن العشر إلى منتصف القرن العشرين، صدر الكتاب أول مرة عام 1962م في بريطانيا، وتمَّ نقله إلى اللغة العربية عبر المترجم كريم عزقول فصدر عام 1968م في دار النهار ببيروت، ويأتي الكتاب في «472» صفحة من القطع المتوسط.

قدَّمَ ألبرت حوراني اعتراضه على ترجمة عنوان الكتاب في مقابلته مع مجلة المجلة، فقد اُستخدم لفظ نهضة بدلًا عن ليبرالي، المرادف لنفس الكلمة في عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية: «Arabic Thought in the Liberal Age 1798 -1939» حيث يقول حوراني بأنَّ كلمة نهضة تأخذ انطباعًا مختلفًا عن كلمة ليبرالي[4] ، ويوضح بأنَّ الليبرالية هو المناخ الذي سادَ في أوروبا في تلكَ المرحلة.

توزع الكتاب على ثلاثة عشر فصلًا، جعل ألبرت حوراني الفصول الثلاث الأولى مدخلا تاريخيا لموضوع الكتاب الرئيسي، ثمَّ بدأ بالتأريخ متحدثا عن انطباع الجيل الأول وما تلاه، مستخدمًا نصوص وكتب الرواد مستشهدًا بها ومحللًا لها في الوقتِ ذاته، ثمَّ تعرَّضَ حوراني للأفكار العلمانية والقومية المصرية والعربية التي ظهرت في تلكَ المرحلة، وفي الفصل الأخير قدَّمَ قراءة استشرافية للفكرِ العربي.

تحقيب الفكر العربي:

يقول ألبرت حوراني في مطلعِ كتابه: ”العرب أشد شعوب الأرض إحساسًا بلغتهم“ [5] ، وهي فرضية سلّم بها ولم يعطِ لها استدلالًا، حاول حوراني تبيان تطور الفكر العربي الذي ولد بولادة النَّبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - والذي شهد تحولًا في حياة العرب، وظهور دولة الخلافة الراشدة وما أعقبها من دول، ثمَّ ينتقل إلى الجانب الفكري بشقيه الشَّرعي والسياسي، فيوضح مراحل جمع القرآن، ثمَّ يعرج إلى مسألة نظام الحكم في الإسلام وغياب النص الصريح له، ويتناول علم الجرح والتعديل الذي ساعد في تنقية السُّنَّة النَّبوية.

ويرى حوراني أنَّ القرآن الكريم والسنة النبوية شكلتا النِّظام المثالي عند المسلمين، ثمَّ يبين تأثير هذا النظام على الجانب الاجتماعي وكيف أنَّ الممارسات التعبدية وحَّدت الفكر الجمعي للمسلمين، وأن كل عبادة لها تأثيرها الخاص في المجتمع الإسلامي، كما وضح بأن دعوة الرسول عالمية وليست خاصة، وأشار بأنَّ الشريعة الإسلامية أصبحت نظام حياة لدى العرب، ويذهب بأنها الروح المحركة للدولة الإسلامية، وأنَّ الدول الإسلامية المتعاقبة انتهاءً بالدولة العثمانية كانت الشريعة الإسلامية المحرك الأساسي لها، ولم يقدم تحقيبًا للفكر من بداية ولادة الدولة الإسلامية وصولاً إلى الدولة العثمانية، وإنما وضَّحَ جذور الفكر العربي وتطوره عبر التَّاريخ.

كما حاول تحقيب الفكر العربي النهضوي من حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798م - وهي الفترة المعنية بها الدراسة - حيث يعتبر حوراني بأنَّ الحملة الفرنسية على مصر أيقظت الفكر العربي من سباته الطويل وبعثته للنهوض، ومن هذه الفرضية انطلقَ حوراني في تحقيبِ الفكر العربي بطريقةٍ غير مباشرة وهي على النَّحو الآتي:

الحقبة الأولى: «1798 - 1870م»

يرى حوراني بأنَّ الحملة الفرنسية هي اللحظة التي انبثقَ منها فكر النهضة، وأبرز رواد هذه الحقبة الذين تناولهم حوراني هما: رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي.

الحقبة الثانية: «1870 - 1900م»

وهي الفترة التي ظهر فيها جمال الدِّين الأفغاني وتلميذه محمد عبْده، وقد رأى هذا الجيل ألا تناقض بين المدنية الغربية والإسلام.

الحقبة الثالثة: «1900 - 1939م»

وهي فترة ظهور بارز لفكر القومية العربية والوطنية كما تخللها بروز فكر العلمانية.

الحقبة الرابعة: «1939 - 1962م»

وهو الجيل الذي عاصره ألبرت حوراني الذي يرى بأنَّ هذا الجيل استطاع الموافقة بين الحداثة والتراث إلى حدٍّ بعيد.

الفكر العربي عبر رواده

1 - الجيل الأول: «جيل الصدمة»

لم يؤرخ حوراني الفكر العربي عبر المدارس أو الاتجاهات كما فعل الدكتور محافظة، وإنما استخدم نصوص الرواد لمعرفة الفكر وتأريخه، وبدأ برفاعة رافع الطهطاوي «1801 - 1873م» الذي ذهبَ إلى فرنسا في أولِ بعثة مصرية وقضى في باريس خمس سنوات أثَّرت في أفكاره، وألف كتاب ”تخليص الإبريز في تلخيص باريز“ وهو ما قال عنه الدكتور محمَّد عمارة ”أول نافذة أطلَّ منها العقل العربي على الحضارة الأوروبية الحديثة“ [6] ، وطرح رفاعة سؤال كيف بإمكان العالم الإسلامي أن يدخل في عصر الحداثة دون أن يتخلى عن الإسلام؟ وقدَّم أطروحة نلخصها كما قدَّمها حوراني كالآتي: يجب على الشَّريعة أن تتلاءم مع واقع اليوم، التربية الصحيحة تقود إلى شعب مؤهل يستطيع أن يشترك في الحكم دون الولوج إلى أحقية الحاكم، ويعود تقدم الدول وسقوطها كما يرى طهطاوي إلى روح الأمة، والوطنية. ويشير حوراني بأنَّ فكرة القومية المصرية بدت واضحة في فكر الطهطاوي.

ثم يتناول حوراني رائد بارز وهو خير الدين التونسي «1810 - 1899م»، الذي تدرج في مناصب الدولة العثمانية، وقد زار فرنسا وتأثر بالحداثة الأوروبية، ووضع مفهوم التنظيمات الدنيوية، التي على العالم الإسلامي أن يتملّكها وإلا غرق بالتخلف والاستعمار من قبل أوروبا، ويذكر حوراني بأنَّ خير الدين التونسي ركز على دور الدولة في المجتمع ولا يمكن نجاحها إلا باقتباس الحداثة الغربية، ويوضح حوراني بأنَّ طهطاوي وخير الدين اتفقا على أن لا تقدم إلا بالحداثةِ الغربية، ولكنهما اختلفا في فكرة القومية فقد انطلقَ طهطاوي من القومية المصرية بينما خير الدين التونسي من الأمةِ الإسلامية.

ويتناول حوراني أيضًا بطرس البستاني «1819 - 1883م» المسيحي، الذي روج لفكرة بأن الشرق الأدنى لا ينهض إلا عبر علوم أوروبا الحديثة، فوضع سؤال ماذا يجب على الشَّرق الأدنى أن يستعين به من الغرب لكي ينهض؟ وحاول الإجابة عليه عبر اهتمامه بترجمةِ العلوم التجريبية الغربية إلى اللغة العربية، وحاول استصلاح اللغة العربية لتكون صالحة للعلوم الدنيوية، كما إنه دعا إلى قومية عربية إقليمية.

2 - الجيل الثاني: «لا تعارض بين الدين والمدنية»

ويتناول حوراني أبرز رائد من روَّاد النهضة وأكثرهم جدلاً، جمال الدّين الأفغاني «1839 - 1897م» حيث يعتبره مالك بن نبي وعبد الرَّحمن الرافعي وحسن حنفي، باعث النهضة وموقظ الأمة[7] . يرجح حوراني بأنَّ الأفغاني ينتمي إلى الطائفة الشيعية، ويستدل باستشهاد الأفغاني بفلسفة ابن سينا في خطبه في زمن لم تكن تدرس فلسفة ابن سينا إلا في المدارس الشيعية[8] . لكن الأفغاني اصطدم ببوارج الاستعمار؛ لذلك حاول الإجابة عن سؤال كيف باستطاعة العالم الإسلامي مواجهة الاستعمار الأوربي؟ ودعا الأفغاني إلى مراجعة للدين الإسلامي والعودة إلى الإسلام الحقيقي، كما أن الأفغاني وضع فكرة الجامعة الإسلامية، التي تبناها السُّلطان عبدالحميد الثاني «1848 - 1918م» محاولاً الحفاظ على الدولة العثمانية، واستطاع الأفغاني نشر أفكاره عبر مجلة «العروة الوثقى» التي أسسها في باريس، كما أن جولاته في حواضر وعواصم العالم الإسلامي كان له الدور البارز في تحريك الفكر العربي في هذه المدن.

ويرى حوراني بأن السنوات التي قضاها الأفغاني في مصر كانت خصبة بالأفكار النهضوية، كما يرى المؤلف بأنَّ فكر جمال الدين الأفغاني لم يكن دينيًا بل حوى فكرة المدنية التي كانت من بذور الفكر الأوربي في القرن التاسع عشر، ويدل على ذلك مناظرته مع المؤرخ الفرنسي رينان «1823 - 1892م».

وتبرز نقاط قوة الأفغاني بأنه شخصية مؤثرة لمن حوله، حيث إن محمد عبْده «1849 - 1905م» تأثَّرَ به، حيث زعم بأنَّ الإسلام الحقيقي لا يتعارض مع المدنية الحديثة، كما وضع فكرة المستبِد العادل، ويقول حوراني أنَّ محمد عبده بنى جدارًا أمام العلمانية فكان جسرًا لها، وهو ما تبين فيما بعد عبر تلاميذ محمد عبده، الذين انقسموا إلى تيارات فكرية متضادة.

3 - الجيل الثالث: «المدنية الحديثة»

يتحدث حوراني بأنَّ فكر محمد عبْده أفرزَ اتجاهين، الاتجاه الأول طبقة مثقفة من تلاميذه، وأصبحت نخبوية تمثلت في مؤسسات الدولة، وتطور الاتجاه نحو العلمانية والتي ولد من رحِمها فكرة القومية المصرية، كما برز قاسم أمين «1865 - 1908م» وهو أحد تلاميذ محمد عبده وصاحب كتاب «تحرير المرأة» الذي وضع فيه تناقض غير مباشر عن تلاقي الدين والحداثة، لكن في كتابه الآخر «المرأة الجديدة» وضح ماهية المرجعيات التي ارتكز عليها وهي قواعد المدنية الحديثة والعلم التجريبي.

أما لطفي السَّيد «1872 - 1963م» وهو أقل نزعة من قاسم أمين، صاحب فكرة الأمة المصرية، وأن المجتمع غير الإسلامي أفضل من الإسلامي؛ لكنه لم يصرح بعدم تلاقي المدنية مع الإسلام. ثمَّ يتطرق حوراني إلى علي عبد الرازق «1888 - 1966م» صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذي أشار فيه إلى أنَّ الخلافة ليست من أصول الدين، وأن الإسلام لم يُقِم دولة، ونرى بأنَّ علي عبد الرازق جاء في زمن سقوط الخلافة العثمانية، وهو ما جعله أمام خيارين إمَّا أن يدافع عن الخلافة أو ينكرها، وقد اختار نكرانها.

4 - الجيل الرابع: «السلفية الإصلاحية الإسلامية»

أحدثت أطروحات الأفغاني ومحمَّد عبْده هزات فكرية في العالم الإسلامي، فبرزت حركة إصلاحية تحمل هذه الأفكار، وتناول حوراني أحدهم وهو رشيد رضا «1865 - 1935م» الذي التقى بمحمد عبده ثمَّ أصبح تلميذه، ففكره لا يختلف عن معلمه، حيث حاول إعادة إنتاج فكر محمد عبده مرتكزًا على أسس السَّلف والدفاع عن الإسلام، ونشر هذه الأفكار عبر مجلته «المنار» والعديد من المؤلفات، التي اعتبرها حوراني من المصادر المهمة لتاريخ الفكر العربي.

ويلخص حوراني أفكار رشيد رضا، بالتالي: أنَّ على الإسلام تحدي العالم الجديد، وأن يستفيد من المدنية الحديثة في أوروبا لكي يستطيع النهوض، كما كان يدعوا إلى تعديل المذاهب ووضع شريعة تستند إلى القرآن والسُّنة وتنسجم مع العصر الحديث.

5 - التيار العلماني

وكما ذكر حوراني بأنَّ محمَّد عبْده كان جسرًا للعلمانية، فإن أطروحات الإسلاميين كان لها تأثير في النخب، فظهر تيار علماني، ركز حوراني على أبرز رواده وهو شبلي الشميل «1850 - 1917م» الذي رأى بأنَّ العلم هو الدين الجديد والحاجز الذي سيوقف الديانات القديمة، وأن العلم سيحرر الإنسان، كما أنه يعتقد بأن العلم الحل الأمثل للغز الكون.

ثم يذكر حوراني فرح أنطون «1874 - 1922م» الذي طرح فكرة فصل الدين عن الدولة وتحديد أطر العلم والدين وتشبيهما بالعقل والقلب، حيث إن العقل وظيفته الملاحظة والاستنتاج والقلب وظيفته الإيمان بما وجد.

ثم يعرج الكاتب إلى تأريخ نشوء فكرة القومية العربية التي يرجعها إلى عوامل التتريك التي حدثت في القرن التاسع عشر، ونرى بأن حوراني قد حجّم أسباب النشوء، حيث إن هناك عوامل عديدة دفعت بفكرة القومية العربية إلى الولادة من أهمها تلبية متطلبات الشعب العربي في العصر الحديث.

6 - الجيل المعاصر

وفي آخر فصلين ركز حوراني على فكر طه حسين «1889 - 1973م» ويعتبر بأنَّ كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» به مجمل فكر طه حسين، حيث ادّعى بأنَّ مصر جزء من أوروبا، وأنَّ غاية الحياة صنع الحضارة التي يكون بها توازن ما بين العقل والدين وهو سبب تفوق أوروبا، حيث إنَّ العقل يحكم المجتمع والدين يملئ القلوب.

وسوف نتناول أطروحة علي المحافظة في المقال القادم والذي حاول التأريخ لعصر النهضة العربية بطريقة مغايرة لألبرت حوراني.

القسم الثاني

«كتاب علي المحافظة: «الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة «1798 - 1914م»

ولد الدكتور علي مفلح محافظة عام 1938م في قرية كفر جايز بالأردن، وقد نال دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون عام 1980م، كما تقلد مناصب عديدة منها: رئيس جامعة اليرموك 1989 - 1993م، ورئيس جامعة مؤتة 1984 - 1989م، وعمل في وزارة الخارجية الأردنية ما بين أعوام 1962 - 1971م، وقد رفد المكتبة العربية بالعديد من الكتب منها: «العلاقات الأردنية - البريطانية 1921 - 1957م» الصادر عام 1973م، وكتاب «الحركة الفكرية في فلسطين وشرقي الأردن 1775 - 1925» الصادر عام 1987م، ومن آخر إصداراته الكتب التالية: ”حركات الإصلاح والتحديث في الوطن العربي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الحادي والعشرين“ الصادر عام 2011م، وكتاب ”انتفاضة الثورة العربية.. دراسات عن العلمانية والليبرالية والتاريخ المعاصر“ الصادر عام 2017م، وكتاب ”الحركات الإسلامية المتطرفة في الوطن العربي“ الصادر عام 2018م. ونجد أنَّ محافظة قد ركز على الجانب الفكري في كتبه، واستطاع إنجاز العديد من الدراسات في هذا المجال. وهو ما يجعل كتابه الاتجاهات الفكرية عن العرب في عصر النهضة محل دراستنا.

1 - كتاب: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة

حاول محافظة أن يقدم تأريخًا شاملًا لما أسماه عصر النَّهضة للفترةِ الواقعة من الحملة الفرنسية عام 1798م إلى بداية الحرب العالمية الأولى 1914م، وبخلاف ألبرت حوراني الذي اتخذ من روَّاد النهضة وكتاباتهم أساسًا لتأريخ لفكر النهضة، فإن محافظة قد حدد مجالات أسماها الاتجاهات الفكرية وهي: دينية وسياسية واجتماعية وعلمية، حيث حاول أن يحصر في كل مجال أبرز الحركات والرواد والمفكرين لكي يؤرخ بصورة بانورامية لفكر النهضة العربي.

اهتم محافظة بالسَّرد التاريخي ولم يهتم بالتحليل والتفكيك لفكر النهضة العربي، وقد بوب كتابه في أربعة فصول ابتداءً بالاتجاه الديني ثمَّ السياسي ثم الاجتماعي ثم اختتم بالاتجاه العلمي، وهذا الترتيب حسب محافظة هو تنازلي، حيث بدأ بالأهم ثم المهم، وسوف نستعرض أهم المحاور وأبرز الأفكار التي تناولها محافظة في كتابه.

أولا: الاتجاه الديني

يعتبر محافظة أنَّ الردود الدينية هي أولى الردود التي اهتمَّ بها العرب للنهوض، ويسلّم بأنَّ باب الاجتهاد أقفل من القرن الرابع، ثم يذكر ابن تيمية «1262 - 1327م» الذي كان مجددًا في الفقه، وتلميذه ابن القيم الجوزية «1290 - 1350م» الذي نشر فكر شيخه، ثم يتطرق إلى الدعوات الإصلاحية السلفية بحيث ابتدأ بالدعوة الوهابية ومؤسسها محمد بن الوهاب «1703 - 1791م» في نجد، والمذهب الشوكاني لصاحبه محمَّد بن علي الشوكاني «1760 - 1839م» في اليمن، والحركة السنوسية في المغرب العربي، والمهدية في السودان، ونستخلص أهم المبادئ التي اشتركت بها هذه الحركات، وهي:

1 - الاعتماد على كتاب الله والسُّنة كمصدر أساسي.

2 - تنقية الدين الإسلامي من البدع والخزعبلات والعودة إلى نقائه الأول.

3 - الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد.

4 - رفض التقليد والدعوة إلى التجديد.

وقد ذكر محافظة الألوسيَّان في العراق شهاب الدِّين الألوسي «1802 - 1893م»، ومحمود شكري الألوسي «1856 - 1924م» حيث اعتبرهم من التيارات الإصلاحية، ونرى بأنهما لم يقدما تجديدًا كون كتاباتهم لم تتجاوز ما تمَّ كتابته في تلك الفترة، وإنما قدما نقاشًا للمواضيع والقضايا، ولا ندري ما هو المقياس الذي اتخذه محافظة لاعتبارهما من الحركة الإصلاحية.

ثم يتطرق محافظة إلى تيار آخر أسماه ”تيار التجديد“ يمثله جمال الدين الأفغاني «1839 - 1897م» وتلميذه محمَّد عبده «1849 - 1905م» ورشيد رضا «1865 - 1935م» وقد تميز هذا التيار باعتبار الغرب مثالًا يحتذى به، وبدأ يطرح أفكارا توفيقيه ما بين الدين الإسلامي والحداثة الغربية، بينما نجد أنَّ الحركات السلفية اصطدمت بالغرب كمستعمر. كما امتاز جمهور التيار التجديدين بأنهم نخبة المجتمع بينما تفاعلت الحركات الإصلاحية السلفية مع جميع أفراد المجتمع بمختلف طبقاته.

ثانيا: الاتجاهات السياسية

إن تقدم الغرب في النظم السياسية وما أفرز عن ذلك من تطور صناعي وقوة عسكرية، كل ذلك جعل المثقفين الأتراك والعرب يطالبون بالإصلاحات السياسية من حيث وجود دستور وبرلمان، وقد برزت في كتابات خير الدين التونسي وغيره، وقد استطاع علي محافظة توزيع أبرز الاتجاهات السياسية في أربع تيارات، وهي:

1 - تيار الجامعة الإسلامية

هي فكرة جمال الدين الأفغاني «1839 - 1897م» ليجمع بها الأمة الإسلامية في مواجهة الاستعمار الأوروبي، وقد تبناها السلطان عبد الحميد الثاني «1848 - 1918م» لينقذ ما أمكن إنقاذه من سقوط الدولة العثمانية.

2 - تيار الرابطة العثمانية

يذكر محافظة المفكرين الذين رأوا أن الدولة العثمانية هي الوثاق الأمين والجامعة، ويستدل محافظة بكتابات هؤلاء المفكرين ومنهم: أحمد عرابي «1841 - 1911م»، ومصطفى كامل «1874 - 1908م»، وسليم تقلا «1849 - 1892»، وأحمد فارس الشدياق «1804 - 1887م»، كما أنه يذكر محمد عبده مستدلًا بمقال له، غير إننا نجد محمد عبده في كتابه ”الإسلام بين العلم والمدنية“ ينافي ما ذهبَ إليه محافظة.

3 - تيار الوطنية الإقليمية

يذهب محافظة بأنَّ مفهوم الوطنية بدأ بالتشكل في كتابات رفاعة الطهطاوي «1801 - 1873م»، ويوافق بذلك ما ذهب إليه حوراني، وقد برز المفهوم أكثر في كتابات أحمد لطفي السيد «1872 - 1963م»، وقد عبرت بعض الصحف مثل المقطم والجريدة عن الوطنية، التي أضحت أكثر ظهورًا مع قدوم بوارج الاستعمار.

4 - تيار القومية العربية

يطرح علي محافظة بأنَّ مفهوم القومية العربية برز لدى الكتّاب المسيحيين العرب، ويعود ذلك إلى ظهور القومية الأوروبية وكذلك رد فعل على التتريك، وكذلك إيجاد وعاء يجمع المسلمين والمسيحيين العرب على حدٍّ سواء، فلم تكن سوى القومية العربية، وقد برز مفهوم القومية العربية في كتابات سليم البستاني «1848 - 1884م» وإبراهيم اليازجي «1847 - 1906م» ويعقوب صروف «1852 - 1927م» وفارس نمر «1856 - 1951م».

ثالثا: الاتجاهات الاجتماعية

حاول محافظة تأطير الاتجاهات الاجتماعية في عصر النهضة، لكن نعتقد بأنَّ محافظة لم يوفق كثيرًا في التأريخ لهذا الاتجاه، وقد يعود ذلك إلى قلة المصادر وكذلك عدم انفتاح الكتابات التاريخية على علمِ الاجتماع في العالم العربي في ذلك الوقت، لذلك نجد محافظة يؤرخ لأبرز القضايا التي شغلت المفكرين والرواد في تلك الفترة، وهي:

1 - أسباب تخلف المجتمع العربي.

2 - الدعوة إلى الحرية والمساوة.

3 - الدعوة إلى العدالة الاجتماعية.

4 - تحرير المرأة.

ثم يذكر أبرز الكتَّاب والصحف التي تناولت هذه القضايا.

رابعًا: الاتجاهات العلمية

كان للاكتشافات العلمية دور كبير في تقدم وتمدن أوروبا من الناحية الاقتصادية والسياسية وغيرها، وهو ما لاحظه رواد النهضة وبدأوا يدعون به عبر الصحف والمجلات، ويتطرق محافظة إلى ذلك موضحًا في البداية المدارس والكليات العلمية في مصر وبلاد الشام، ودور محمد علي باشا «1769 - 1849م» في إنشاء المدارس المتخصصة، وابتعاث الطلبة إلى أوروبا، ثم يعرج إلى دور الصحف والمجلات في ترجمة العديد من الأعمال العلمية إلى العربية، وكذلك في تناول الأخبار العلمية، وقد سرد محافظة أسماء الأعمال والمؤلفات العربية العلمية لتلك المرحلة وهو ما نراه جهد توثيقي كبير، لم يحظ بتسليط الضوء عليه مثلما تمَّ على الجانب الفكري ومؤلفاته من قبل الباحثين.

وفي المقال القادم سنتناول أطروحة زكي الميلاد التي تناول فيها بالتحليل والنقاش أبرز الدراسات التي أرخت أو تناولت عصر النهضة العربية.

القسم الثالث

كتاب زكي الميلاد: «عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟»

زكي عبدالله الميلاد كاتب وباحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة والدراسات الفكرية، من مواليد عام 1965م، محافظة القطيف بالمملكة العربية السعودية، وهو رئيس تحرير مجلة ”الكلمة“ التي تعني بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجديد الحضاري، وتصدر من بيروت منذ عام 1993م. [9] 

نال كتابه «عصر النهضة كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟» على جائزة الكتاب السعودي فرع الفكر والفلسفة عام 2017م، ولديه العديد من الإنتاج المعرفي منها نظرية تعارف الحضارات وكتابه «محنة المثقف الديني مع العصر» وكتاب «المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟» وغيرها من الكتب والدراسات والأبحاث. [10] 

يأتي كتاب زكي الميلاد في 220 صفحة، وهو المنشور عام 2016م، عن النادي الأدبي بالرياض بالاشتراك مع المركز الثقافي العربي ببيروت، وقد بوبه في خمسة فصول، ويرى المؤلف أن الحديث عن النهضة وعصرها إنما هو حاجة دائمة ومستمرة، ففيه نضجت وتبلورت قضايا وإشكاليات النهضة والإصلاح، حيث يقول: ”تتأكد الحاجة إلى هذا العصر في ظل ما نلمسه اليوم من انحدار حضاري خطير“ [11] ، فيعيد الباحث زكي الميلاد قراءة إشكاليات النهضة العربية، حيث قام باستعراض أبرز آراء الباحثين والمفكرين الذين قدموا دراسات وأبحاث في القرن الماضي عن فكر النهضة العربية، محاولاً استنطاق هذه الدراسات واستخراج أبرز الأفكار والفرضيات التي ناقشتها.

وبخلاف الكتابين السابقين لم يرجع زكي الميلاد إلى مصادر أو كتب أو مقالات رواد النهضة العربية، إنما اعتمد على الدراسات الحديثة التي تناولت عصر النهضة العربية محاولاً الإجابة عن سؤال: كيف انبثق عصر النهضة ولماذا أخفق؟ وسوف نستعرض أهم ما تناوله زكي الميلاد في كتابه من آراء وأفكار.

كيف انبثق عصر النهضة؟

حاول الباحث زكي الميلاد في الفصل الأول من الكتاب الإجابة عن: سؤال كيف انبثق عصر النهضة؟ وذلك باستعراض أربع أطروحات، فالأطروحة الأولى ترى أن عصر النهضة انبثق على إثر الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، ويوافق على هذه الأطروحة المفكر محمد عابد الجابري «1935 - 2010م» وألبرت حوراني وعلي محافظة، أي أن النهوض كان وفق مؤثر خارجي. أما الأطروحة الثانية فترى أن عصر النهضة ظهر وتشكل نتيجة نهوض ذاتي في القرن الثامن عشر، وينسب هذا الرأي إلى الأديب محمود شاكر «1909 - 1997م» وكذلك إلى المؤرخ الأمريكي بيتر جران، ويرى الأول بأن هناك أعلام عربية ظهرت في العالم العربي وساعدت بالنهوض الذاتي، بينما يرى الثاني بأن مصر شهدت تطوراً ذاتياً على الصعيد الفكري والاقتصادي.

وأما الأطروحة الثالثة فينفرد بها الدكتور فهمي جدعان الذي يرى بأن عصر النهضة بدأ مع ابن خلدون في القرن الرابع عشر ميلادي، والأطروحة الرابعة فإن عصر النهضة انبثق مع ظهور جمال الدين الأفغاني «1838 - 1897م»، وأن تأثير الأفغاني عجل بظهور الحركة الإصلاحية ويؤيد هذه الأطروحة كلاً من: مالك بن نبي «1905 - 1973م» والدكتور وحسن حنفي وعبدالرحمن الرافعي «1889 - 1966م» وغيرهم.

ويتعرض الميلاد بالنقد لهذه الأطروحات الأربعة إلا أنه لا يحدد موقفه منها ولا يرجح أحدها بشكل مباشر، ولكن نجد بأنه يرجح أطروحة الأفغاني بطريقة غير مباشرة، كما أن العرض اقتصر على الجوانب الفكرية أو الإنتاج المعرفي بينما النهضة تكون شاملة للعديد من المجالات أهمها الاقتصاد والمجتمع. ونرى بأن ما يسمى عصر النهضة ما هو الإ عصر الإصلاح والحركات الإصلاحية التي انبثقت عنه، فالأجدى أن يكون السؤال عصر الإصلاح متى انبثق؟ وليس عصر النهضة ذات المفهوم الواسع.

المدنية في كتابات رواد النهضة

تتبع زكي الميلاد في الفصل الثاني من الكتاب إلى البحث عن التمدن في كتابات رواد النهضة، كون المدنية مصطلح استخدم للإشارة إلى تقدم أوروبا، ويقسم زكي الميلاد الكتابات التي تناولت فكرة المدنية وعلاقتها بالدين إلى ثلاثة أزمنة أساسية، الزمن الأول ارتبط برفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والذين طرحوا بأن الشرع الإسلامي لا يمانع الاستفادة من المدنية في أوروبا، حيث عبر عنها الطهطاوي بالمنافع العمومية، وأطلق عليها خير الدين التونسي بالتنظيمات الدنيوية.

أما الزمن الثاني فقد عرف اتجاهاً تعارض الدين مع المدنية ليتصدى له محمد عبده «1849 - 1905م» ويؤكد عدم تعارض بين الدين والمدنية، وأما الزمن الثالث فقد حدده الميلاد ببداية القرن العشرين وقد ارتبط بالمتأثرين بمحمد عبده مثل محمد فريد «1868 - 1919م»، والشيخ مصطفى الغلاينيي «1886 - 1944م»، الذين أكدوا تلاقي الإسلام مع المدنية، بل اعتبروا مبادئ الإسلام هو قمة المدنية، وقد تحفظ الميلاد عن هذه الفكرة كونها طوباوية عن الواقع والموضوعية.

ثم يذهب زكي الميلاد في بحثه ليوضح تراجع فكرة المدنية في الفكر العربي، استثنى من ذلك مالك بن نبي الذي استبدل المدنية بالحضارة، كما فسر هذا التراجع بنظرية القطيعة بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.

لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟

يعود زكي الميلاد في الفصل الثالث إلى السؤال الذي حاول شكيب أرسلان «1869 - 1946م» الإجابة عليه، ويضع الميلاد ملاحظاته على السؤال، فملاحظته الأولى ينبه بقيمة السؤال الذي أصبح متلازماً مع خطاب النهضة العربية، والملاحظة الثانية أن هذا السؤال أفرز أسئلة أخرى اختلفت في الصيغة والتقت في المضمون، ومنها سؤال روجيه جارودي «1913 - 2012م» لماذا الحضارة الأوروبية استمرت والحضارة الإسلامية انقطعت؟ وسؤال البوطي «1929 - 2013م» لماذا تحجرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية؟. والملاحظة الثالثة بأن السؤال ما زال معلقاً وثابتاُ رغم مرور ما يقارب مائة عام على طرحه.

ثم يعرّج الميلاد إلى إجابة شكيب أرسلان وتأثيرها في العالم الإسلامي، ويعطي زكي الميلاد رأيه في كتاب أرسلان، فيمتدح خلود السؤال وحضوره، ويرى بأن مادة الكتاب هي ابن بيئته.

لماذا عصر النهضة أخفق؟

حاول زكي الميلاد في الفصل الرابع الإجابة عن الشق الثاني من السؤال الذي وسم به عنوان الكتاب ”عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟“، ويرى الميلاد أن أكثر من اعتنى بدراسة إخفاق عصر النهضة هم: حسن حنفي ورضوان السيد وعبدالاله بلقزيز، ويبدأ بحسن حنفي الذي تحدث تحت عنوان كبوة الإصلاح، حيث يرى حسن حنفي أن الخط البياني لفكر النهضة كان تنازلياً، يؤيد رضوان السيد ما ذهب إليه حنفي بانحدار خطاب فكر النهضة معتبراً أن محمد عبده أقل ثقافة من الأفغاني، وهكذا دواليك.

ووافق عبدالاله بلقزيز ما طرح حنفي والسيد، حيث أسماها بلقزيز بالقطيعة بين الخطاب الإصلاحي ممثلها «الأفغاني، الكواكبي، محمد عبده»، والخطاب الصحوي ممثلها «حسن البنا، سيد قطب،..الخ»، وأعطى بلقزيز فروق بين الخطاب الإصلاحي والخطاب الصحوي، حيث ميز الخطاب الإصلاحي بكونه دعوة فكرية هدفها التجديد وقوامها تحرير الوعي، بينما خطاب الصحوة، دعوة سياسية لتكوين دولة وتطبيق الشريعة، حيث لم يكن نخبها من المثقفين مثل الإصلاحين، بل جيشاً من المناضلين المتمسكين بالفكرة السياسية.

ثم يضع الميلاد ردود معاكسة للأطروحات الثلاثة، فوضع نقد القرضاوي الذي سار مخالفاً لما ذهب إليه حنفي، حيث يرى القرضاوي بأن الخط البياني كان تصاعدياً، فمحمد عبده كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأفغاني وهكذا دواليك، كما يضع الميلاد نقد محمد عمارة «1931 - 2020م» الذي يرى بأن السياق التاريخي الذي ظهر فيه رواد النهضة كان مغايراً عن الجيل الذي سبقوه.

ويقدم الميلاد نقده لهذه الأطروحات الثلاث، حيث يرى بأن الخط البياني كان متبايناً ما بين الصعود والنزول، كما يعزي إلى غياب الفكر الشيعي بين هذه الأطروحات رغم أن رائد النهضة الأفغاني كان شيعياً.

وفي الفصل الخامس فيستعرض الميلاد ثلاث دراسات بارزة تناولت تأريخ فكر النهضة، اشتهرت في القرن الماضي وهي كالتالي:

1 - الفكر العربي في عصر النهضة، لألبرت حوراني، الصادر عام 1962م.

2 - المثقفون العرب والغرب.. عصر النهضة، لهشام شاربي، الصادر عام 1970م.

3 - أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، لفهمي جدعان الصادر عام 1979م.

فقدم عرضاً لهذه الدراسات وقارن بينها ونقدها، ورجح الميلاد بأن وعي فهمي الجدعان تفوق على باقي أقرانه.

مقارنات وملاحظات:

1 - المقارنات

اتفق البرت حوراني وعلي محافظة بأن لحظة انبثاق فكر النهضة كان مع الحملة الفرنسية على مصر، بينما تحفظ زكي الميلاد على رأيه مؤيداً اطروحة جمال الدين الأفغاني باعث فكر النهضة العربية، أما من ناحية استخدام المصادر واسلوب التأريخ لهذا العصر، فنجد بأن حوراني عاد إلى نصوص وكتابات رواد النهضة الذين اتخذهم قاعدة للانطلاق منها في تأريخ فكر النهضة، بينما اتخذ علي محافظة اتجاهات محددة كقاعدة لينطلق منها في البحث في الكتابات والنصوص والحركات المتعلقة بهذه الاتجاهات، أما بالنسبة لزكي الميلاد فلم يرجع إلى نصوص وكتابات رواد النهضة، وإنما استخدم أبرز الدراسات التي تناولت فكر النهضة العربية من عدة جوانب مختلفة.

حاول حوراني تحليل نصوص وكتابات رواد النهضة، بينما ركز محافظة على السرد التاريخي دون الدخول في بُنيات النصوص وتفكيكها، أما الميلاد حاول تفكيك الدراسات التي تناولت فكر النهضة كما أنه حاول الإجابة عن سؤال: لماذا فشل فكر النهضة؟ وقد غاب هذا السؤال لدى حوراني ومحافظة، ونجد أن حوراني ومحافظة شمل كتابهما التاريخ السياسي رغم أن محور الكتابين التأريخ الفكري، بينما تميز الميلاد بالعناية بالتاريخ الفكري، ولم يعط للتاريخ السياسي مساحة في كتابه.

غفل حوراني عن رجال الدين أو التيار السلفي الإصلاحي في كتابه وكذلك زكي الميلاد، بينما تناولهم محافظة في سرديته واعتبرهم باكورة فكر النهضة كما أن المحافظة تناول الحركات والتيارات الفكرية بعكس حوراني والميلاد اللذان تناولا الأشخاص على حساب الحركات والتيارات الفكرية، كما أن الثلاث الدراسات وقعت تحت تأثير المشرق العربي وانتاجه الفكري وإغفال المغرب العربي والجزيرة العربية، وإن كان محافظة تناول بعض الحركات في الجزيرة العربية إلا إنه لم يتعمق في مقاربته.

2 - ملاحظات

الملاحظة الأولى: أغفلت الدراسات الثلاث التي تناولناها عن دور الدولة العثمانية - الحاكمة آنذاك - في التأثير الفكري والاجتماعي على مناخ الفكر العربي سواء عبر الكتّاب الأتراك أو عبر نظامها، كما أن الاطروحة التي تذهب بأن العرب في مصر حدث لهم صدمة حينما دخلت الحملة الفرنسية مصر، لكن قبل هذا التاريخ عرفت الدولة العثمانية تقدم أوروبا وحداثتها، ومن غير شك بأن الدولة أثرت على ولاياتها العربية.

الملاحظة الثانية: طرحت الدراسات الثلاث بعض الفرضيات دون اختبارها، فحوراني وضع فرضية أن الأمة العربية أكثر الشعوب اعتزازاً بلغتها، وكذلك بأن الأفغاني شيعياً دون استدلال أو تمحيص، كما أن محافظة سلّم بفرضية الفكر الغيبي الجامد والحركة السلفية الإصلاحية البرهانية كما أنه طرح أن باب الاجتهاد أغلق منذ القرن الرابع الهجري دون اثبات، وكذلك الميلاد الذي سلّم بشيعية الأفغاني دون أن يبين من أين استدل بذلك.

الملاحظة الثالثة: لم تعير الدراسات الثلاث الاهتمام بالتحولات الفكرية لرواد النهضة، فوقعوا في انتقائية اختيار نصوص الرواد، فمحمد عبده الشاب ليس محمد عبده الكهل، فوجدنا علي محافظة يضع محمد عبده مع تيار الرابطة العثمانية كونه استدل بإحدى مقالاته التي امتدح فيها الدولة العثمانية، بينما نجد في مؤلفات محمد عبده وخاصة كتابه ”الإسلام والمدنية“ بأنه كان ضد الدولة العثمانية وأنه يرى لا عزة للإسلام إلا بالعرب.

الملاحظة الرابعة: لم يخل كتاب ألبرت حوراني من الاستشراق وهو الذي يكره صفة مستشرق، فنجده يرجع كل مؤلف أو فكرة إلى الغرب باعتبارها الأصل وما وجد في العالم العربي هو التأثير القادم من الغرب، بينما نجد علي محافظة وزكي الميلاد امتزجت كتابتهم بالحنين إلى النهضة العربية دون أن يتخللها تبجيل مبالغ فيه لذلك العصر.

الملاحظة الخامسة: لم يتم إعطاء مساحة كافية في الدراسات الثلاث لرجال الدين أو رواد الحركات الإصلاحية السلفية، وإن تم تناولها في كتاب محافظة إلا إنه لم يتعمق في دراسة هذه الحركات أو الشخصيات، فتصنيفه للشوكاني معتبراً إياه منتمياً للحركة السلفية تحتاج إعادة نظر ودراسة، أما بالنسبة لحوراني والميلاد فلم يتم تناول رجال الدين المجددين في مقارباتهم.

وفي الأخير تناولت الدراسات الثلاث عصر النهضة من زوايا مختلفة، فقد أرخ حوراني للفكر عبر رواد النهضة، بينما تناول محافظة الاتجاهات المختلفة محاولاً التأريخ لكل اتجاه في عصر النهضة، أما زكي الميلاد وهو صاحب الإصدار المتأخر فقد تناول الدراسات التي نقبت في حقل عصر النهضة عبر مواضيع محدده محاولاً عمل مقاربات ومقارنات لمواضيع تناولها الدارسون لعصر النهضة.

وقد استعرضنا الثلاث الدراسات موضحين معالمها وأبرز أفكارها، كما طرحنا ملاحظاتنا عليها، ونستخلص من ذلك التالي:

1 - دراسة تأريخ الفكر يحتاج إلى الشمولية والدقة في تناول النصوص مع الحرص على جمع أكبر قدر من كتابات تلك المرحلة خصوصاً إذا كانت منطقة الدراسة متباعدة جغرافياً.

2 - الاستعانة بدراسات فكرية متخصصة برواد النهضة أو المجددين، لكي لا يحدث الفهم الخاطئ للكتابات المدروسة لتلك المرحلة.

3 - العناية بالتحولات الفكرية لشخصيات الدراسة، مع معرفة أسباب التحول وماهيتها، مع مقارنة للشخصية في مرحلة الشباب ومرحلة الكهولة، لمعرفة إن كان هناك تحولات فكرية واضحة.

4 - تحتاج دراسة الفكر التاريخي إلى معرفة عابرة للتخصص في مجالات الفقه واللغة العربية والعقيدة والاجتماع، كذلك الاطلاع الواسع على كتابات أجنبية عاصرت مرحلة الدراسة المعنية.

5 - ما زالت هناك مواضيع عديدة في عصر النهضة العربية تحتاج إلى التنقيب والدراسة واهتمام الباحثين بها.

[1]  محرر الموقع، الموسوعة العربية، http://arab-ency.com.sy/overview/3875 «تاريخ الوصول: 3 - 10 - 2020».

[2]  مصفطفى زين، أنا إنكليزي المولد والنشأة، مجلة المجلة، ع 64,1981م، ص65.

[3]  المرجع نفسه، ص66.

[4]  المرجع نفسه، ص66.

[5]  ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، «بيروت: دار النهار، ط 1,1968»، ص11.

[6]  ينظر: زكي الميلاد، لكي لا يخسر العالم العربي عصر الإصلاح، مركز الاشعاع الإسلامي للدراسات والبحوث الإسلامية، شوهد في بتاريخ 01/11/2022م في: «https://cutt.us/CpLy7».

[7]  زكي الميلاد، مرجع سابق، ص38.

[8]  ألبرت حوراني، مرجع سابق، ص11.

[9]  موقع زكي الميلاد، http://www.almilad.org/page/sira.php تاريخ الاطلاع «25-11-2020م».

[10]  المصدر نفسه.

[11]  زكي الميلاد، مرجع سابق، ص10