آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 4:55 م

عبء الذاكرة

محمد العلي * مجلة اليمامة

الذاكرة هذه المغارة الواسعة التي تضم أزهارا وأشواكا، ويمر عليها فصلان من الفصول: الربيع، وهو النضج الفكري الذي تنمو فيه أشجار المعرفة دانية قطوفها، ويكون القمر في ريعان شبابه ينشد للسامرين شعر أبي نواس. والخريف، وهو النسيان، هذا العدواني الفظ الذي يعري الأشجار من أوراقها، فيغادر الحديقة جمالها وقد غزاها الذبول. لكن هناك في أعماق الذاكرة أشواك تتمرد على هذا الذبول، وتبقى جرحا خفيا ينزف ببطء. هذه الأشواك هي الأخطاء التي يقترفها المرء في مسيرته الحياتية في حق نفسه، وثانيا فى حق بنيه وبناته، بدءا من اختيار الأسماء حتى التدخل في الاختيارات وحتى الرواسب الوراثية. هذا هو عبء الذاكرة 0 «جرح يظل على برئه نازفا» كما يقول أدونيس.

هذا الجرح الذي يهزأ بالضماد يعيد إلى ذهني اسطورة ذلك الشاعر المبتدئ الذي سأل شاعرا مشهورا: كيف أكتب شعرا؟ فقال له اذهب واحفظ ألف بيت. فذهب المسكين وحفظها، وعاد وقال له حفظتها. قال له اذهب وانسها، وذهب ونسيها ثم أتاه. فقال له: نسيتها. فقال له: الآن أصبحت شاعرا. هذه الأسطورة تصور النسيان كشيء إرادي. وما أروعه لو كان إراديا، إذن لرأيتني أرمي 90 من محتويات ذاكرتي في بحر الظلمات. ولأصبح فرويد ومن لف لفه، وتجرأ على المشي في طريقه، خارج التاريخ.

لكن أليست الذاكرة نعمة لا ضفاف لسخائها؟ أليست هي التي نقلت الينا تجارب الماضي، وما بناه القدماء ماديا ومعنويا، ولولا ذلك لبقينا فى الحظيرة حتى الآن؟ إنها مصباح يضيء طريق من يحسن رفعه، أو يحشد الظلمات لمن يحمله وهو لا يبصر ضياءه «وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم؟»

كل فئة من البشر لها ذاكرة تختلف اختلافا ما عن الفئات الأخرى، ففيها من يحمل بذاكرته الفرح، وفيها من يحمل الفرح والحزن، أما الفئة المعذبة بذاكرتها فهم الشعراء. إنك لا تقرأ شاعرا إلا وتسمع الأنين قافزا من حروفه، والشكوى من ذاكرته، منذ وقوفه على الأطلال التي تذكره بأيام الوصل وربيع اللقاءات إلى قول شاعر حديث: «ذكرتك/ فانحدرت إلى جداولي النحيلة/ نمت في الغابات فوق وسائد الورق وقابلت الخريف ببابه العالي» لماذا يا ترى يعشق الخريف الشعراء وحدهم من بين خلق الله؟

كاتب وأديب