آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 1:36 م

فاقد الشيء... يعطيه

حسن المرهون

من المألوف أن العالم المعطاء لا يبخل على مجتمعه ويوجه الأفراد من خلال علمه، وكذلك الطبيب يطبب والمهندس يبني وينجز والمعلم يُعلم والمحسن الذي أوسع الله عليه ينفق، وغيرهم جميعا يخدمون الإنسانية بما أعطاهم الله. لكن هناك أناس لا يملكون كل هذا وهم لا يتوقفون عن العطاء، فلا هم رجال دين ولا أطباء ولا مهندسين ولا أثرياء، وتجدهم يوظفون فكرهم وقناعاتهم ووقتهم كي ينهلون منها ويعملون آناء الليل وآناء النهار لأجل مجتمعهم بدون مقابل. معادلة صعبة التصديق لكنها كانت ماثلة أمامنا وقد رحلت إلى بارئها يوم العيد.

السيد طالب السيد علي السيد محمد العوامي رحمه الله بواسع رحمته كان يتصف بصفات بعيدة كل البعد عن المألوف، كان يذهب كل ليلة سبت إلى أماكن توقف حافلات الطلاب الذين يدرسون في الرياض ويحمل شنط الطلاب ويساعدهم في حمل أغراضهم ويضعها عنهم في الحافلات، يطبطب على أكتافهم ويدعوا لهم بالتوفيق.

قال لي ذات مرة: أنا جدا أرتاح إذا رأيت شخصا يقرأ كتابا، وأشعر بالسعادة إذا رأيت شخصا يُعلم شخصا آخر ويساعده في حل المسائل.

أتذكره في حياة أبيه السيد علي رحمه الله وكنا أطفالا وكان هو من يدير مخبز العوامي ويتفنن في رفع صفائح المعجونات ويضعها في الفرن، فكان لنا ونحن أطفال مثال الشاب العامل النشط الجاد. وأتذكر والده رحمه الله سواء وهو يجلس في مكتب استقبال المخبز المتواضع أو إذا زار والدي في بيتنا كان يملأ مجلسه بالسعادة والابتسامة، وربما هذا سر تألق السيد طالب، فالسعادة والفكاهة لا ريب أنها تبني الشخصية بنمذجة خاصة.

بعدها بسنوات وبعد رحيل والده السيد علي تحول المخبز إلى بقالة، وكان هو يديرها لوحده، كنت أنا وغيري نأنس كثيرا إذا ما ذهبنا للشراء من هذه البقالة، كنت أنا شخصيا وأنا في مقتبل العمر أتعمد الذهاب لشراء أي شيء وأنا لست بحاجة إليه، فقط كي أستمع لحديثه الشيق، فأمضي الساعة وأحيانا الساعتين وهو لا يكل ولا يمل من الحديث، وكان يتحدث في شتى المواضيع بأسلوب جديد وملفت، وكأن البقالة فصل دراسي، وتفاجأت مرة أنه قال لي: ترى أنا ما أعرف لا أقرأ ولا أكتب، يا إلهي من أين لك كل هذه المعلومات والربط بين الأحداث. وربما هذا الشغف وحب الاطلاع والبحث عن المعرفة مهما كانت الصعوبات أحد الأسرار الضاربة في التاريخ لخلق مجتمع ناهض أو قابل للنهوض.

كانت بقالة السيد طالب تقع أمام وسط المسافة بين بوابة مدرسة زين العابدين الابتدائية وبين مدرسة القطيف الثانوية، وكان السيد طالب بمثابة الوسيط بين الأمهات وإدارة المدرسة، فإذا رأى أم ممسكة بولدها متوجهة إلى المدرسة، سواء كان يعرفها أو لا يعرفها، ترك البقالة وذهب مسرعا لحل الإشكال، ويأخذ الطفل ويتحدث مع الإدارة ويطمئن الأم، وهكذا هو مع طلاب الثانوية يفزع لهم إذا كان هناك خطب أو مشكلة، فكأنه مرشد طلابي أو مسؤول تربوي. وأحيانا يأتيه بعض الآباء ليلا للتحدث معه عن مشاكل أولادهم في المدرسة وهو بصدر رحب ينبري للمساعدة، ويتابع في الصباح مع إدارة المدرستين. مساعدة الآخر أوكسيجينه الذي يتنفس ودمه الذي يجري في شرايينه وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالطلاب. ربما هذا سر آخر من أسرار التوفيق التي نراها بين الحين والآخر في مجتمعنا كون أمثال السيد طالب العوامي رحمه الله منبع للحب المتدفق للغير الذي يعرفه والذي لا يعرف.

عجيب أمر هذا الرجل، كان يتلمس المواجع بخفة وطيبة والمجتمع لا يشعر به، كان لا يملك تلك المعايير الأساسية المتعارف عليها للعطاء، لكنه يعطي، كان فقد الأشياء لا يعني له شيء، المهم أنه يعطي مهما كانت الزوايا غير مدورة. تعلمنا منه أن العطاء وعمل الخير ليس بحاجة دوما إلى رصيد، وهكذا هم العظماء يكسرون القاعدة... نعم فاقد الشيء... يعطيه، لكن فقط في حسابات السيد طالب. فهو علم ولم يتعلم، وساعد ولم يُسَاعد، وتفقد ولم يُتفقد، إنها القيم والنبل إذا أخذت مأخذها من الرجال كسروا المألوف وتصرفوا كالأنبياء، رحم الله أبو سيد منير رحمة الأبرار وما أحوجنا إلى أمثاله...

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
احمد سويكت ابو مصطفى
[ القطيف ]: 23 / 4 / 2023م - 10:18 م
أحسنت أخي العزيز أبو علي على هذه المقالة في حق هذا المؤمن الطيب والخلوق وصاحب القلب الكبير ليس فيه إلا محبة للخير لكل الناس، ولا يحمل الحقد ولا الكراهية لأحد، وكان يتعامل مع الآخرين سواء أكان صغيراً أو كبيراً بأسلوب راقي ولسان عذب، لذلك أحبه الجميع، وخصوصا أهالي بلدته الدبابية الذين أحبوه بصدق لما رأوه فيه من هذه الصفات الحميدة
رحمك الله يا أبو سيد منير.
وأسأل الله أن يجعله في الفردوس الأعلى مع محمد وآل محمد الطبيبين الطاهرين..
2
ابو مصطفى
24 / 4 / 2023م - 1:28 م
رحمك الله يبو سيد منير رحمة الابرار، ونحن كطلاب كنا بمدرسة القطيف الثانوية كنا نأنس بزيارة "بقالة السيد طالب" فهو يغمرنا بحديثة وسؤاله كالأب الحاني على اولاده، حشره الله مع اجداده محمد وآله الطيبين الطاهرين